المسؤولية الدولية ...

إذا كان الله تعالى قد فرض على البشر جزاءات دنيوية، تزل بالمعتدين منهم على شرعه في الدنيا، وأخرى آخروية، تؤجل إلى ما بعد الموت والبعث، فإن النظم السياسية في العالم قد تبنت أسلوب الجزاءات الفورية على الأفعال المجرمة قانونا؛ حيث أنشأت سلطات قضائية للبت في التهم وتقرير العقوبات المناسبة.

أما في الجانب الدولي، فنظرا لأن الدول تتساوى في السيادة، فإنها لا تلزم نفسها إلا في ظل اتفاق ترضاه، كالمعاهدات أو الأعراف تقوم بين الدولِ؛ بحيث تقتصر الأحكام الواردة فيه على هذه الدول ولا تتجاوزها إلى غيرها، فالقانون الدولي، كما عرفتموه في سنوات الدراسة بالليسانس، نظام رضائي اتفاقي، يقوم ويتأسس على الإرادة السيدة والحرة للدول.

إن الاتفاقات الدولية تنشئ التزامات متبادلة؛ بمعنى أنها تنشئ حقوقا للدول، وتلزمها بواجبات، فحقوق دولة ما، هي نفسها التزامات دولة أو دول أخرى تجاه تلك الدولة. ومع مرور الزمن تكونت مجموعة من القواعد الرضائية بين الدول أطلق عليها جميعا القانون الدولي العام. ترتب على ذلك مسألة مهمة، هي تنفيذ الالتزامات من قبل الدول التي تعهدت بها؛
ولذا فلا بد من المساءلة الدولية في ظل مجتمع دولي تترابط مصالحه ومشاكله؛ فالمساءلة الدولية أمر لا بد منه، بدء بالأعمال الانتقامية، كرد فعل، ضد من أجرم، وكجزاء على عدم الوفاء بالالتزامات، وانتهاء، بما يصيب الدول والشعوب من أضرار جراء استخدام الأسلحة المتطورة، من هنا تأتي أهمية المسؤولية لتحديد الطرف المخل بالتزاماته.

إن المسؤولية الدولية أحد أبرز القواعد الهامة، الراسخة في بنيان القانون الدولي العام؛ لأنها تقوم على تحمل الدولة، أو أحد أشخاص القانون الدولي تبعة الأضرار، التي تلحق بالغير، جراء قيام سلطاتها التشريعية، أو التنفيذية، أو القضائية، بمخالفة الالتزامات الدولية؛ بمعنى أنه يجب عليها الالتزام بالأحكام التي تتناول أساس هذه المسؤولية، سواء كانت واردة في الاتفاقيات الدولية، أم في الأعراف الدولية، أم مقررة وفقا للمبادئ العامة للقانون في الأنظمة المختلفة. فالقاعدة إذن هي: إذا أخلت الدولة بأي من الالتزامات، أو الواجبات الدولية المفروضة عليها، بموجب أحكام القانون الدولي، تستوجب عليها المسؤولية الدولية، بسبب هذا الإخلال.

تكمن أهمية المســؤولية الدولية، في أنهـا تعتبر الأداة القانونية اللازمة لضمان المحافظة
على تطبيق قواعـد القانون الدولي العـام، وبالتالي تدعيم وتعزيز الأمن والتعاون الدوليين،
وعلى الرغم من أن الكثير من قواعد القانون الدولي المتعلقة بالمسؤولية الدولية عرفية، إلا أن العمل يجري في الوقـت الحاضر مــن أجل تدوينها وتقنينها، لهذا عهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى لجنة القانون الدولي بمهمة إعداد مشروع اتفاقية الأمم المتحدة بشأن المســؤولية الدولية، التي تتناول فحسب المسؤولية عــن العمل غيـر المشروع؛ أي مخالفة قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي.

تختلف مسؤولية الدولة باختلاف الواجب الذي أخلت به، فقد تكون مسؤولية أخلاقية، إذا هي أخلت بالتزام أخلاقي، تفرضه عليها قواعد الأخلاق الدولية، وقد تكون مسؤولية أدبية، إذا أخلت بالتزام أدبي تفرضه عليها قواعد المجاملات الدولية؛ ولما كان الجزاء غير متوفر في قواعد الأخلاق والآداب الدولية، وكان المرجح الوحيد فيها هو الضمير، فلا يترتب على قيام هذه المسؤولية أي أثر مباشر من التزام بدفع تعويض، وإن ترتب عليها أثر أمام الرأي العام. كذلك إذا أخلت دولة ما بقاعدة من قواعد المجاملات الدولية، فإن كل ما تتعرض له، هو إمكانية أن تعاملها الدولة المتضررة بنفس المعاملة، وأخيرا قد تكون مسؤولية قانونية إذا أخلت بالتزام قانوني تفرضه عليها قواعد وأحكام القانون الدولي.

إن النظام القانوني الدولي، شأنه شأن الأنظمة القانونية الأخرى، يفرض على أشخاصه التزامات وواجبات، تكون واجبة التنفيذ قانونا، سواء أكان مصدرها حكما اتفاقيا، مثبتا في معاهدة أو اتفاقية، أم حكما عرفيا، أم حكما قدرته المبادئ العامة في النظم القانونية المختلفة، فإذا تخلف الشخص القانوني الدولي عن القيام بالتزامه/واجبه، تترتب على تخلفه هذا، بحكم الضرورة، المسؤولية الدولية لامتناعه عن الوفاء بذلك الواجب.

لا تنشأ المسؤولية الدولية إلا بين دول مستقلة، تتمتع بكامل حريتها في تسيير شؤونها، الداخلية والخارجية؛ فالدول ذات السيادة الناقصة أو المقيدة لا تسأل عن الأضرار الناجمة عن تصرفاتها وأعمالها. وبما أن المنظمات الدولية، بمختلف أنواعها، تعتبر من الأشخاص الدوليين، فإنها تعامل كالدول فيما يخص المسؤولية الدولية.

_{نتناول في هذا المقياس جملة من المحاور، التي من شأنها أن تعطي الطالب مفهوما واضحا عن المسؤولية الدولية، وتطبيقاتها المختلفة في القانون والقضاء الدوليين. تتمثل هذه المحاور في:}

المحور الأول: مفهوم المسؤولية الدولية

المحور الثاني: أسس المسؤولية الدولية

المحور الثالث: مفهوم العمل غير المشروع وأنواعه

المحور الرابع: تطبيقات المسؤولية الدولية في حالة الحرب

المحور الخامس: الحماية الدبلوماسية