مقدمة المقياس
مقدمة
مقدمة
لا يختلف اثنان على اعتبار النظرية العامة للعقد محطة أساسية وجب الوقوف عندها كمنطلق لأي دراسة قانونية على اعتبار أن العقد هو أهم صورة للتصرف القانوني في الحياة الاجتماعية، وما الإرادة المنفردة سوى مصدر استثنائي للالتزام، وقد عرف القانون المدني الجزائري العقد في المادة 54 بقوله: "العقد اتفاق يلتزم بموجبه شخص أو عدة أشخاص آخرين بمنح، أو فعل، أو عدم فعل شيء ما".
واضح أن هذا التعريف يتضمن العقد والالتزام معًا، ذلك أنه إذا كان موضوع العقد هو إنشاء الالتزام فموضوع الالتزام هو عمل ايجابي أو سلبي.
هذا، ويندرج العقد ضمن النظرية العامة للعقد باعتبارها جزءًا من النظرية العامة للالتزام التي يتحدد مجالها ونطاقها الخصب في دائرة القانون الخاص والمعاملات المالية، وبالنتيجة فهي تنطبق على العقود التي تدخل في مجال القانون العام، مثل المعاهدات الدولية والعقود الإدارية وكذلك العقود الواردة في قسم الأحوال الشخصية كالزواج والتبني.
وتأسيسًا على الإرادة الحاصلة عن الاتفاق فإن القوة الملزمة للعقد، تتجسد في مبدأ سلطان الإرادة القائمة على وجوب احترام حرية التعاقد وعدم جواز نقض العقد أو تعديله، إلا باتفاق الطرفين.
إن دراسة النظرية العامة للعقد يستلزم بسط أحكامه من حيث مفهومه وشروطه وأثر تخلف هذه الشروط في فصل أول ومعرفة الأثر القانوني المترتب عن الإخلال بتنفيذه وبالنتيجة إعمال قواعد المسؤولية العقدية باعتبارها المكنة الوحيدة لجبر الضرر، فصل ثاني؟
تمهيد: التعريف بنظرية الالتزام
لا يختلف اثنان على اعتبار النظرية العامة للالتزام محطة أساسية وجب الوقوف عندها كمنطلق لأي دراسة قانونية.
هذه النظرية التي أسلت أقلام الكتاب والفقهاء مما جعل منها العمود الفقري في مجال التكوين القانوني ومما لاشك فيه أن الالتزام هو الوجه الآخر للحق، فنقول حقا إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة الدائن ونقول التزامًا إذا نظرنا إليها من وجهة المدين.
وعلى العموم فإن الحقوق يمكن ردها أساسًا إلى حقوق سياسية كحق الرشح والترشيح، حقوق طبيعية كالحق في الحياة وبيئة نظيفة، حقوق معنوية كحق التأليف وبراءة الاختراع وحقوق مدنية، والحق المدني ينقسم بدوره إلى قسمين حقوق مدنية مالية وحقوق مدنية غير مالية.
والحق المدني غي المالي هو ما يعرف بحقوق الشخصية أي تلك المتعلقة بالحالة المدنية للشخص.
أما الحقوق المدنية المالية فهي بدورها تقسم إلى قسمين
حق مالي عيني ومنه الأصلي كحق الملكية –ملكية الرقبة- وتبعي كحق الانتفاع والاستغلال.
وحق مدني مالي شخصي أو كما يعرف بحق الدائنية أو الالتزام وهو أساس دراستنا ومناط النظرية العامة للالتزام، وهو التقسيم الذي تبناه المشرع الجزائري في التقنين المدني إذ نظم الحقوق الشخصية والعقود في الكتاب الثاني ونظم في القسم الثاني الحقوق العينية والحقوق العينية التبعية في الكتاب الثالث والرابع.
والحق الشخصي أو كما يعرف بحق الدائنية أو الالتزام هو موضوع النظرية العامة للالتزام أين يعتبر المدين الطرف السلبي الغالب وليس الدائن ومن تم لا يقال نظرية الحق الشخصي بالنظرية الدائن والعلة في ذلك هو إمكانية نشأة الالتزام في الوجود طرف واحد ألا وهو المدين دون حاجة إلى وجود دائن كما هو الحال في الوعود بجائزة للجمهور أو في عقد الاشتراط مصلحة الغير ومن تم كانت الناحية الغالبة فيه من الناحية السلبية أي الالتزام وليس الحق[1].
هذا ويختلف الحق الشخصي "الالتزام" عن الحق العيني في كون:
الحق العيني هو سلطة يقررها القانون لشخص معين على شيء محدد بذاته يكون له بمقتضاها أن يفيد منه مباشرة في حدود معينة يرسمها القانون[2] ومثاله حق الملكية.
ومن ثم فهذا الحق يقوم على عنصرين –صاحب الحق وموضوع الحق- ولصاحب الحق بمقتضى هذه السلطة المخولة له قانونًا أن يستفيد مباشرة من موضوع الحق كما له أن يستعمل أو ينتفع بالشيء موضوع الحق وأن يتصرف فيه لا يحده في ذلك حد سوى اعتبارات النظام والآداب العامة.
أما الحق الشخصي أو كما يعرف بالالتزام فقد وردت بشأنه العديد من التعارف إذ عرفه البعض على أنه "رابطة أو علاقة بين شخصين دائن ومدين يلتزم بمقتضاها أحدهما وهو المدين بأن يؤدي للآخر عملاً معين أو يمتنع لصالحه عن أداء معين"[3].
هذا التعريف في حقيقة الأمر هو تعريف مستمد من فقهاء القانون الروماني والذين أرادو التميز بين الحق الشخصي والعيني إذ جعلوا من الحق العيني رابطة بين شخص وشيء محدد بذاته وجعلوا من الحق الشخصي رابطة بين شخصين أحدهما دائن والآخر مدين وإذا كان الحق العيني يقوم على عنصرين ألا وهما صاحب الحق وموضوع الحق فإن الحق الشخصي ومن خلال التعريف السابق فإنه يقوم على عدة عناصر وهم الدائن العنصر الإيجابي والمدين العنصر السلبي وموضوع الحق وهو أداء عمل أو الامتناع عن العمل.
إن تعريف الالتزام على أساس أنه رابطة أو علاقة بين شخصين تميزًا له عن الحق العيني لاقى نقدًا لاذعًا من العديد من الفقهاء وشراح القانون[4].
ذلك لأن في رأي هؤلاء الفقهاء أن الحق الشخصي أو الالتزام هو ليس ذات الرابطة التي تجمع بين صاحب الحق وغيره وأن العلاقات تقوم أولاً بين الأفراد ثم يأتي القانون وينظمها ويفرض لهذا حقا وعلى الآخر واجب.
ومنه فالحق ليس هو الرابطة أو العلاقة التي تجمع الدائن بالمدين وهو الأمر الذي نؤيده من جهتنا ذلك أنه ومن جهة نظر أخرى فإن العلاقة أو الرابطة تستلزم لنشأتها وجود طرفين على الأقل في وقت واحد فإذا كان الالتزام هو رابطة أو علاقة فإنه لا يمكن تصور وجود أو نشأة التزام في وجود طرف واحد دون الطرف الآخر وهو الأمر الذي لا يستقيم وهو ما تضمنته أغلب التقنيات المدنية وعلى رأسها التقنين المدني الجزائري الذي يتعارض مع هذا المنطق إذ نجد أن المشرع الجزائري جعل من وجود ونشأة الالتزام أمرًا ممكنًا في وجود طرف واحد ألا وهو المدين دون حاجة إلى الدائن إلا عند مرحلة تنفيذ الالتزام كما هو الحال في الالتزام الناشئ عن الإرادة المنفرة "الوعد بجائزة" إذ ورد في المادة 115 من القانون المدني الجزائري "من وعد الجمهور بجائزة يعطيها عن عمل معين يلزم بإعطائها لمن قام بالعمل".
فالالتزام الواعد بإعطاء الجائزة وهو المدين قائم وثابت وسابق قبل القيام بعمل من طرف الدائن أي قبل وجود الدائن أصلاً، أو كما هو الحال في عقد الاشتراط لمصلحة الغير، فبالرجوع إلى نص المادة 118 من القانون المدني الجزائري الذي ورد فيها "يجوز في الاشتراط لمصلحة الغير أن يكون المنتفع شخصًا مستقبلاً أو هيئة مستقبلية كما يجوز أن يكون شخصًا أو هيئة لم يعينا وقت العقد ...".
كما يعرض مالا على شخص ويشترط عليه أن يرده لابنه الذي سيولد في المستقبل أو للشركة التي سوف يؤسسها مستقبلاً.
فالدائن هو شخص أو هيئة مستقبلية لم توجد بعد في حين أن التزام المدين في مواجهة الدائن برد مبلغ القرض هو التزام قائم بات ثابت مسبقًا دون حاجة تواجد الطرف الثاني في العلاقة ألا وهو الدائن.
لأخلص إلى القول من جهتي أن الالتزام ليس علاقة أو رابطة بين دائن ومدين، ذلك أن العلاقة في نشأتها منطقيًّا تستلزم وجود طرفين في حين أن الالتزام يمكن أن يوجد وينشأ في وجود طرف واحد ألا وهو المدين ولا حاجة إلى الدائن إلا عند تنفيذ الالتزام.
هذا الانتقاد للتعريف السابق للالتزام هو ما دفع بالبعض الآخر من الكتاب والفقهاء[5].
إلى تعريفه أنه "حالة قانونية أو وضع قانوني يلتزم بمقتضاه شخص معين بإعطاء شيء أو بفعل أو امتناع عن فعل".
إن التعريف وعلى خلاف ما سبق تعرض بدوره إلى نقد شديد وعلى الأقل من الجانب اللغوي فمصطلح حالة أو وضع قانوني لا يفيد معنى الالتزام وحتى بالنسبة لأصحاب هذا التعريف فإنه لا يمكن أن يسلموا بأنه حالة قانونية أو وضع قانوني هو المعنى المراد لمصطلح الالتزام إذ يمكن أن يفهم من وضع أو حالة قانونية كل شيء عدا الانصراف إلى مفهوم الالتزام.
التعريف المختار[6]: انطلاقًا من الانتقادات اللاذعة للتعريفين السابقين رأى بعض من الفقهاء أن الالتزام هو "واجب قانوني خاص يتحمل به شخص معين يسمى المدين، ويتضمن قيامه بعمل أو امتناعه عن عمل ذي قيمة مالية لصالح شخص آخر يسمى الدائن يكون له سلطة إجباره على أدائه".
خصائص الالتزام:
إنه ومن خلال هذا التعريف يمكن استنتاج العناصر أو الخصائص الأساسية للالتزام باعتباره واجب قانوني يختلف عن غيره من الواجبات الأخرى الأخلاقية والدينية وتتمثل هذه الخصائص في:
1_ أن للالتزام طرفان، الدائن وهو الطرف الإيجابي والمدين وهو الطرف السلبي الذي يقع على عاتقه القيام بعمل أو الامتناع عن عمل لفائدة الدائن، مع العلم وكما سبقت الإشارة إليه فإن الالتزام يمكن أن ينشأ بطرف واحد ألا وهو المدين دون حاجة إلى وجود الطرف الثاني ألا وهو الدائن والحاجة إلى تواجد الدائن إذن لا تكون إلا عند تنفيذ الالتزام.
2_ إن محل الالتزام هو دائمًا أداء مالي قد يكون عمل كالتزام البناء بإقامة مسكن أو جدار لفائدة شخص آخر أو امتناع عن عمل كالتزام تاجر بعدم منافسة تاجر آخر في نفس البضاعة وبنفس المكان وقد يكون التزام المدين تسليم مبلغ من النقود.
3_ على اعتبار أن الالتزام أداء مالي فإنه يمكن تقويمه بالنقود وهو يأخذ خاصية النقد أي قابليته للتداول إذ يمكن تحويله ونقله من شخص إلى آخر حال الحياة عن طريق ما يعرف بحوالة الحق عندما يقوم الدائن بتحويل حقه منه إلى شخص آخر وحوالة الدين ويكون عندما يحول المدين دينه إلى شخص آخر فيصبح هناك مدين جديد في مواجهة الدائن. كما ينتقل الالتزام بالوفاة عن طريق الميراث[7].
4_ الالتزام واجب قانوني –أي يعترف به القانون ويقره، فإن امتنع المدين عن أدائه ترتبت مسؤوليته وجاز للدائن أن يجبره على التنفيذ ومنه فإن الالتزام يقوم على عنصرين عنصر المديونية وهو ما التزم المدين القيام به وعنصر المسؤولية وهي إمكانية إجباره على التنفيذ ومن هنا يتميز الالتزام كواجب قانوني عن غيره من الواجبات الأخرى لافتقاد الأخيرة لعنصر المسؤولية 5:
_ الالتزام واجب قانوني خاص إذ يعتبر الالتزام واجب قانوني خاص فهو يختلف عن الواجب القانوني العام ألا وهو واجب الخدمة العسكرية ومن ثم قيل الالتزام هو واجب قانوني خاص إذ أن واجب الخدمة العسكرية وإن كان واجب قانوني فإنه يتميز عن الالتزام بافتقاره لأهم خاصية يتميز بها الالتزام والمتمثل في كونه أداء مالي.
أنواع الالتزام[8]
إن ما يمكن الإشارة إليه بدءًا أن الالتزام وعلى غرار الحق هو نوع واحد لا يتعدد ولا يتنوع، غير أن الفقه جعل له تقسيمات وأنواع وذلك يعود إلى انقسام نظرة الفقه إليه، إذ نظر إليه البعض من حيث القوة الإلزامية فقسم إلى التزام مدني والتزام طبيعي ونظر إليه البعض من حيث محله فقسم إلى التزام بعمل والتزام بامتناع عن عمل ومنهم من نظر إليه من حيث الغاية التي يتوخاها الدائن من مدينه فقسم الالتزام إلى التزام بتحقيق نتيجة والتزام ببدل عناية ونظر إليه البعض الآخر من حيث مصدره فقسمه إلى التزامات إرادية والتزامات غير إرادية كما يلي:
1_ الالتزام المدني والالتزام الطبيعي:
إن معيار تقسيم الالتزام إلى مدني وطبيعي يجد أساسه في القوة الإلزامية للالتزام، فالالتزام المدني هو الالتزام الذي يقوم على عنصرين عنصر المديونية وعنصر المسؤولية أما الالتزام الطبيعي فهو الالتزام المدني والأخلاقي وهو في نشأته التزام مدني لكن عنصر مرور الوقت أفقده أهم ركن يقوم عليه الالتزام والأمر يتعلق بعنصر المسؤولية فعدم تنفيذ الالتزام بمرور فترة زمنية معينة يؤدي إلى تقادم دعوى حماية الحق وبالنتيجة لا يمكن للدائن جبر مدينه على تنفيذ الالتزام، ومع ذلك إن نفذه المدين وأوفى بما في ذمته أعتبر وفاءه صحيحا ولا يستطيع المطالبة باسترداد ما أداه أو قيمته وهو ما نصت عليه صراحة المادة 162 من القانون المدني الجزائري التي ورد فيها "لا يسترد المدين ما أداه باختياره بقصد تنفيذ التزام طبيعي" ومن أمثلة ذلك ما ورد النص عليه في انقضاء الالتزام ولكن يتخلف في ذمة المدين التزام طبيعي...".
2_ الالتزام بعمل والالتزام بامتناع عن عمل:
يجد هذا التقسيم للالتزام أساسه في نوع الأداء الذي يلتزم به المدين قبل دائنه فقد يكون عمل أو امتناع عن عمل.
والالتزام بعمل يشترط تدخل إيجابي من المدين قد يكون مادي وقد يكون قانوني.
ومثال الالتزام بعمل مادي التزام النجار بصنع طاولة فهذا النوع من الالتزام يستلزم تدخل النجار تدخلاً ايجابيًّا ماديًّا من أجل تحقيق ما التزم به وهو صنع وتجسيد طاولة على أرض الواقع حتى تبرء ذمته.
ومثال الالتزام بعمل قانوني، والتزام المحامي بالدفاع عن شخص ما في قضية معينة أو التزامه قبل زبونه بتسجيل استئناف في حكم معين فالمحامي هنا وإن كان تدخله إيجابي غير أنه ليس مادي ينطوي على تجسيد شيء معين على أرض الواقع فعمل المحامي إذن يقتصر على اتخاذ مجموعة من الإجراءات القانونية المتطلبة حتى تبرء ذمته في مواجهة زبونه.
أما الالتزام بامتناع عن عمل فهو فعل سلبي يلتزم به المدين أي أنه ملزم بعدم القيام بأي عمل سواء مادي أو قانوني في مواجهة الدائن وإلا ترتبت مسؤوليته.
ومثال الالتزام بامتناع عن عمل مادي التزام الجار بعدم إحداث أو فتح نافذة تطل مباشرة على منزل جاره ومثال الالتزام بامتناع عن عمل قانوني التزام البائع بعدم ترتيب أي حق على الشيء المبيع.
ومن ثمة فإن أخل المدين بالتزامه بالامتناع عن عمل سواء أكان مادي أو قانوني جاز للدائن أن يطالبه بإزالة ما وقع مخلفا للالتزام وله أن يزيل ما قام به المدين، وهو ما عبرت عنه صراحةً المادة 173 من القانون المدني الجزائري التي ورد فيها "إذا التزم المدين بالامتناع عن عمل وأخل بهذا الالتزام جاز للدائن أن يطالب إزالة ما وقع مخالفًا للالتزام ويمكنه أن يحصل من القضاء على ترخيص للقيام بهذه الإزالة على نفقة المدين".
هذا مع ملاحظة أن الالتزام من حيث المحل بالإضافة إلى تقسيمه إلى التزام بعمل والتزام بامتناع عن عمل قد قسم إضافة إلى الصورتين السابق ذكرهما إلى التزام بإعطاء وهي الصورة التي أوردها المشرع الجزائري في نص المادة 165 من قانون المدني الجزائري.
والالتزام بإعطاء إذن هو التزام بإنشاء حق عيني أو بنقله وإن كانت هاته الصورة في حقيقة الأمر في رأينا لا تخرج عن نطاق الصورة الأولى إلا وهي الالتزام بعمل فنقل الملكية أو ترتيب حق ارتفاق هو عمل ايجابي قد يكون قانوني أساسا وقد يكون مادي ومن ثم لا داعي لتقسيم الالتزام من حيث المحل إلى التزام بعمل وامتناع عن عمل والتزام بإعطاء ذلك أن الصورة الأخيرة مستغرقة بصورة الالتزام بعمل أو الامتناع عن عمل.
3_ الالتزام ببدل عناية والالتزام بتحقيق نتيجة:
وجد هذا التقسيم أساسه انطلاقًا من الغاية أو الهدف الذي يتوخاه الدائن من خلال التزام مدينه في مواجهته ومن ثم فإذا كان مضمون الأداء الذي يلتزم به المدين هو الغاية التي يتوخاها منه الدائن كنا بصدد التزام بتحقيق نتيجة مثال ذلك التزام البائع بنقل الملكية فهنا مضمون التزام المدين هو ذاته مضمون النتيجة التي يتوخاه الدائن وهي انتقال الملكية إليه أما في الالتزام ببدل عناية فإن مضمون التزام المدين ليس هو الغاية التي يهدف إليها الدائن فمضمون التزام المدين هنا ما هو إلا وسيلة لتحقيق ما يتوخاه الدائن ومضمون ما يهدف إليه كما هو الحال في التزام المحامي بالدفاع عن زبونه فمضمون التزام المحامي هنا هو اتخاذ كافة الإجراءات القانونية اللازم إتباعها واتخاذها دون تقصير وليس كسب القضية.
هذه الاجراءات المتخذة من طرف المحامي إذن هي الوسيلة التي يمكن من خلالها للزبون أن يكسب القضية وهي الهدف الذي يتوخاه الدائن في النهاية ومن ثم فإن المحامي لا يسأل عن كسب أو عدم كسب القضية وإنما يسأل هل اتخذ الإجراءات المناسبة والملائمة التي من شأنها كسب القضية، وعليه فإن ذمته تبرء في مواجهة زبونه إن اتخذ هذه الإجراءات دون أن يسأل على النتيجة وهي كسب القضية.
إن التزم المدين هنا هو اتخاذ الحيطة اللازمة والعناية اللازمة التي من شأنها أن تحقق النتيجة التي يهدف إليها الدائن والأمر كذلك فيما يتعلق بالتزام الطبيب إذ أن مضمون أدائه هو بدل العناية اللازمة في معالجة المريض باتخاذ ما تتطلبه مهنته أمام حالة معينة ولكن لا يسأل في أي حال من الأحوال على شفاء المريض الذي يعد الغاية التي يهدف إليها الطرف الآخر.
4_ الالتزامات الإرادية والالتزامات غير الارادية:
إن تقسيم الالتزام إلى التزامات إرادية والتزامات غير إرادية يجد أساسه في الواقعة المنشئة له.
فالالتزامات الارادية إذن أساس نشأتها يعود إلى إرادة الأطراف ذاتها فإرادة الشخص الحرة هي من أحدثت وأنشأت الالتزام كما هو الحال في العقد والإرادة المنفردة.
إذن في هذا النوع من الالتزامات فإن إرادة المدين اتجهت عن وعي وإدراك إلى إحداث الالتزام.
أما الالتزامات غير الارادية فهي تلك الالتزامات التي تترتب في ذمة المدين دون أن تتجه إرادته إلى إحداثها وبالنتيجة الالتزام بها وإنما يعود منشأها إلى أسباب ووقائع أخرى غير الإرادة من مثل القانون والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب.
مصادر الالتزام في التشريع الجزائري:
إن مصادر الالتزام هو السبب المولد له فلا التزام إذن، دون سبب يؤدي إلى نشوئه.
هذا ومصادر الالتزام عديدة ومتفرقة وإن كان القانون في حقيقة الأمر مصدر جميع الالتزامات فلا وجود لأي حق أو لأي التزام في غياب قانون يقرره ويعترف به.
ويمكن رد تصنيف مصادر الالتزام إلى صنفين رئيسيين التصنيف التقليدي لمصادر الالتزام "التصنيف الخماسي" والتصنيف الحديث
1_ التصنيف التقليدي لمصادر الالتزام "التصنيف الخماسي":
ظهر هذا التصنيف لمصادر الالتزام في القرن التاسع عشر في فرنسا وترجع جذوره إلى القانون الروماني واعتمده القانون المدني الفرنسي الصادر سنة 1804 ولا يزال هذا التصنيف سائدًا ونافذًا إلى يومنا هذا.
إن التصنيف التقليدي لمصادر الالتزام يقوم على تقسيم مصادر الالتزام إلى خمسة أنواع وهي العقد وشبه العقد والجريمة وشبه الجريمة والقانون.
والعقد هو توافق ارادتين على إنشاء التزام كالبيع أما شبه العقد فيقصد به عمل مشروع يقوم به شخص بإرادته فيؤدي إلى منفعة لمصلحة شخص آخر دون أن يكون هذا الأخير ملزمًا في مواجهة الأول بموجب عقد أو اتفاق مسبق كما هو الحال في عمل الفضولي أما الجريمة فيقصد بها ارتكاب فعل غير مشروع ينتج عنه ضرر للغير عن قصد أي وعي وإدراك من مرتكب الفعل.
وهذا خلافًا لشبه الجريمة التي تعتبر بدورها فعل غير مشروع ينتج عنه ضرر للغير لكن دون قصد أي نية صاحب الفعل لم تتجه إلى إحداثه بل وقع عن غير قصد محدثه.
أما الالتزامات التي يكون مصدرها القانون فهي تلك التي تنشأ من وقائع أخرى يرتب عنها القانون بنص خاص التزامات معينة كالتزام الزوج بالنفقة على زوجته وأولاده القصر.
وهو التطبيق الذي اعتمده المشرع الجزائري وإن لم يخصه بنص واحد ولكنه أورده في الكتاب الثاني أين تناول في الفصل الأول من الباب الأول القانون وفي الفصل الثاني العقد وتناول في الفصل الثاني مكرر الإرادة المنفردة ليتناول في الفصل الثالث العمل المستحق للتعويض وفي الفصل الرابع شبه العقود إذ أورد الاثراء بلا سبب في القسم الأول وخص الدفع غير المستحق والفضالة بالقسم الثاني والثالث من ذات الفصل.
لنخلص إلى القول أن المشرع الجزائري ومن خلال هذا الترتيب جعل مصادر الالتزام هي القانون، العقد، الإرادة المنفردة، العمل المستحق للتعويض، وشبه العقود.
نقد التصنيف الوارد في التشريع الجزائري:
إن ما يمكن ملاحظته على تقسيم المشرع الجزائري لمصادر الالتزام وردها إلى القانون والعقد والإرادة المنفردة والعمل المستحق للتعويض وشبه العقود أنه خصها بأربعة فصول وأنه أحسن ما فعل عندما خص الإرادة المنفردة بفصل مستقل عن العقد.
أما عن تخصيصه للفصل الرابع تحت عنوان شبه العقود فإن ما يمكن أن يؤخذ على المشرع الجزائري أن هذا الاصطلاح "شبه العقود" هو تعبير خاطئ ذلك أن هذا الاصطلاح يفيد أن المصدر هو قريب وشبيه بالعقد والحقيقة أنه لا يمت بصلة إلى العقد باعتباره توافق ارادتين أو أكثر واتجاهها إلى إحداث أثر قانوني يستوي أن يكون إنشاء حق نقله أو تعديله أو انهائه كما أن شبه العقد كمصدر للالتزام من جهة أخرى هو عمل غير مشروع على خلاف العقد الذي هو تصرف قانوني مشروع الأمر الذي يجعل من تقسيم الالتزام تحت اصطلاح شبه العقد تقليد أعمى وغير مستساغ من طرف المشرع الجزائري للمشرع الفرنسي.
ومن جهة أخرى يلاحظ أن المشرع الجزائري قد أدرج تحت هذا المصدر ثلاثة أصناف أو صور لشبه العقد والأمر يتعلق بالإثراء بلا سبب والذي خصه بالقسم الأول من الفصل الرابع والدفع غير المستحق في القسم الثاني من الفصل الرابع وأخيرًا الفضالة التي خصها بالقسم الثالث من الفصل الرابع مع العلم أن الصورة الثانية والثالثة أي الدفع غير المستحق والفضالة ما هما إلا صورتان للإثراء بلا سبب الأمر الذي يجعل من هذا التقسيم خلط بين المبدأ وتطبيقاته[9] فالدفع غير المستحق يؤدي إلى اغتناء ذمة مالية ما على حساب ذمة مالية لشخص آخر دون وجه حق مما يجعل المسألة إثراء لذمة على حساب ذمة مالية أخرى دون سبب، والفضالة بدورها تؤدي إلى اغتناء ذمة مالية لشخص على حساب ذمة مالية لشخص آخر دون مبرر الأمر الذي يجعل منها إثراء بدون سبب لذمة مالية على حساب ذمة مالية أخرى الأمر الذي يجعل من الإثراء بلا سبب هو المصدر الأساس للالتزام وما الدفع غير المستحق والفضالة إلا صورتان له، الأمر الذي يستلزم على مشرعنا تدارك هذا الخطأ.
التصنيف الحديث لمصدر الالتزام:
انطلاقًا من الانتقادات التي وجهت للتصنيف التقليدي لمصادر الالتزام اجتهد الفقه الحديث في وضع تصنيف ثنائي يرجع مصادر الالتزام إلى مصدرين أساسيين[10].
أولهما: يقوم على الإرادة كأساس مولد ومنشئ للالتزام باعتباره الإرادة وحدها هي التي ترتضي قيام الالتزام ولا يبقى على القانون سوى تبني وتنظيم وما ارتضته إرادة الأطراف[11] ويطلق على هذا النوع من المصادر التصرف القانوني والذي يراد به اتجاه وانصراف إرادة الفرد إلى إحداث أثر قانوني ويشمل هذا المصدر التصرف القانوني من جانب واحد أو ما يطلق عليه بالإرادة المنفردة، كما يشمل التصرف القانوني الصادر من جانبين أو إرادتين وهو ما يسمى بالعقد.
ثانيهما: يقوم على حدوث واقعة معينة يرتب عليها القانون التزام معين من غير أن تكون للإرادة أدنى تتجه إرادة ملقي الحجر إلى إحداث الضرر أو إصابة الشخص الآخر أو كمن يدفع مبلغ من النقود لشخص آخر معتقدًا أن أباه كان مدين له بقيمة ما دفعه ثم يتضح أن أباه قد سدد الدين حال حياته ويطلق على هذا المصدر بهذا الوصف الواقعة القانونية والذي يتضمن العمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون.
مما سبق ووفقًا للمعيار الحديث في تصنيف مصادر الالتزام يمكن القول أن مصادر الالتزام نوعان: مصادر إرادية وهي العقد والإرادة المنفردة ويطلق عليها بالتصرفات القانونية، ومصادر غير إرادية وهي القانون والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب ويطلق عليها الواقعة القانونية. أثر في قصد إحداث الالتزام[12] كأن يلقي شخص بحجر فيصيب به شخص فيسبب له ضرر دون أن
ومن جانبنا نرى أن التطبيق الحديث للالتزام هو التطبيق الأرجح والأصح ومن ثم كان على المشرع الجزائري تبني هذا التطبيق حتى يتفادى كل الانتقادات.[1] أنور سلطان: النظرية العالمة للالتزام، دراسة مقارنة في القانونين المصري واللبناني، دار النهضة العربية، بيروت، 1983، ص05.
[2] تعريف أورده محمد صبري السعدي: الواضح في شرح القانون المدني الجزائري، النظرية العامة للالتزامات، مصادر الالتزام الإدارية، العقد والإرادة المنفردة، دراسة مقارنة في القوانين العربية، الطبعة الرابعة، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ص14.
[3] أورد هذا التعريف كل من:
_ أنور سلطان: المرجع السابق، ص5.
_ عبد المنعم فرج الصدة: مصادر الالتزام، بيروت، 1971، ص22.
_ محمد حسنين الوجيز في نظرية الالتزام، مصادر الالتزامات وأحكامها في القانون المدني الجزائري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983، ص09.
[4] ومنهم: _ محمد السعيدي صبري: المرجع السابق، ص1-16.
_ François Terre; Philipe Simler et Yves Lequette: droit civil, les obligation, précis Dalloz, paris, 1939, n° 2, p1-2.
[5] _ ومن بينهم: سليمان مرقش: أصول الالتزامات، الجزء الأول، طبعة 1960، ص05.
_ أنور سلطان: النظرية العامة في الالتزام، الجزء الأول، طبعة 1975، ص16.
[6] ومن بينهم: _ جميل الشرقاوي: النظرية العامة للالتزامات، الكتاب الأول، مصادر الالتزام، دار النهضة العربية، القاهرة، سنة 1981، ص10.
_ محمد صبري السعدي: المرجع السابق، ص19.
[7] في حوالة الحق يمكن للدائن أن يحول حقه إلى شخص آخر دون حاجة إلى موافقة المدين باعتباره الطرف القوي في العلاقة من جهة ومن جهة أخرى فإن تحويل الحق لا يضر بالمدين في كل حال من الأحوال إذ أنه ملزم بأداء ذات الواجب دون زيادة أو نقصان سواء لهذا أو لذلك، أما في حوالة الدين فإن المدين لا يستطيع تحويل دينه لشخص آخر إلا بموافقة سابقة وصريحة للدائن كما تنطوي عليه نقل الدين من خطر على الدائن، إذ يمكن للمدين سيء النية أن يحول دينه إلى مدين آخر أكثر إعسار منه وبالنتيجة لا يستطيع الدائن عند حول أجل تنفيذ الالتزام من استفاء حقه.
[8] توسعا في أنواع وتقسيمات الالتزام أنظر كل من:
_ محمد الصبري سعدي: المرجع السابق، ص21 إلى 26.
_ عدنان ابراهيم سرحان ونوري محمد خاطر: شرح القانون المدني، مصادر الحقوق الشخصية "الالتزامات"، دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، طبعة 2009، ص20/23.
_ جميل الشرقاوي: المرجع السابق، ص31 وما بعدها.
[9] عدنان ابراهيم السرحان ونوري حمد خاطر: المرجع السابق، ص22.
[10] محمد صبري السعدي: مرجع سابق، ص 33-34.
[11] توفيق حسن خرج: النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، دار الجامعة، بيروت، 1992، ص48.
[12] عبد الرزاق أحمد السنهوري: التصنيف القانوني، الواقعة القانونية، محاضرات ألقيت على الطلبة الدكتوراه في جامعة القاهرة، سنة 1953-1954، ص04.