الفصل الثاني

 

الفصل الثاني:

المسؤولية العقدية


لطالما كان موضوع المسؤولية على اختلاف أنواعها محطة اهتمام الفقه والقضاء ويراد بالمسؤولية بصفة عامة، مؤاخذة الشخص عما قام به من عمل يأتي مخالفًا لقواعد سلوكية سائدة في المجتمع بما يقتضي توقيع الجزاء في حقه وفقا لما قرره القانون.

هذا ويتحدد نوع المسؤولية بالنظر إلى القاعدة السلوكية المخل بها، فإذا كانت القاعدة أخلاقية فالمسؤولية تكون أدبية وتكون المؤاخذة عنها بالصفة ذاتها، والمسؤولية القانونية تتوزع بين مسؤولية جزائية ومدنية وإدارية.

فالمسؤولية الجزائية أساسها مخالفة قاعدة قانونية وهي تنشأ عن وقوع ضرر يصيب المجتمع، من خلال ارتكاب الشخص لأفعال مجرمة معاقب عليها قانونًا، وهذا ما نجده مقررًا في القانون الجنائي وفقًا للقاعدة العامة التي تقضي بأنه: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، ويناط بالنيابة العامة بصفتها ممثلة للمجتمع حق المطالبة بتوقيع الجزاء على مقترفي الجرائم، الأمر الذي يجعل من الجزاء "العقوبة" حق عام للمجتمع وبالنتيجة فإن الصلح والتنازل لا يجوز في الجريمة إلا بنص صريح.

أما المسؤولية المدنية فأساسها الإخلال بالتزام قانوني من طرف شخص يسبب ضرر لشخص آخر وهو الأمر الذي أشارت إليه صراحة المادة 124 من القانون المدني الجزائري بقولها: "كل فعل أي كان يرتكبه الشخص بخطئه، ويسبب ضرر للغير يلزم من كان سبب في حدوثه بالتعويض"، وبالتالي فإن المتسبب في الضرر يسأل على ما سببه وبالنتيجة يلزم بالتعويض.

والمسؤولية المدنية نوعان، تقصيرية، تنشأ عن إخلال الشخص بالتزام يفرضه القانون، ينجم عنه ضررًا للغير وجب جبره، وعقدية تنشأ عن الإخلال بالتزام عقدي يسبب ضرر للطرف الآخر في العلاقة التعاقدية جراء امتناع المدين عن تنفيذ الالتزام أو إساءة تنفيذ الالتزام أو مجرد التأخر في تنفيذ الالتزام، وهو ما أشارت إليه المادة 176 من القانون المدني التي جاء فيها: "إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزامه، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ نشأت عن سبب لا بد له فيه، ويكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه".

هذا ولقيام المسؤولية العقدية كجزاء على عدم الوفاء بالالتزامات الناشئة عن العقد يستلزم وجود عقد صحيح لم يقم المدين بتنفيذه، والمقصود من التنفيذ الذي يترتب على تخلفه المسؤولية العقدية هو التنفيذ العيني وعليه متى كان تنفيذه ممكنًا وتمسك به الدائن، فإنه لا مجال للحديث عن المسؤولية العقدية.

إن بسط الأحكام المسؤولية العقدية يستلزم الوقوف على مفهوم وشورط المسؤولية العقدية وتفصيل أركانها في ظل القانون المدني، ومعرفة الأحكام التي قررها القانون بخصوصها ومدى جواز الاتفاق على تعديل هذه الأحكام على أساس أن العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين؟.

المبحث الأول:

مفهوم المسؤولية العقدية

المسؤولية العقدية هي مسؤولة مدنية مصدرها العقد وأساسها إخلال بالتزام تعاقدي، يستوي أن يكون امتناع عن التنفيذ أو التأخر في التنفيذ أو إساءة التنفيذ.

ومن أجل الوقوف على مفهوم المسؤولية المدنية وجب التطرق إلى تعريفها وشروطها.


المطلب الأول:

تعريف المسؤولية العقدية[1]

إن تعريف المسؤولية العقدية يستلزم توضيح معناها لغو واصطلاحًا كما يلي:

الفرع الأول:

تعريف المسؤولية العقدية لغة

لغة المسؤولية العقدية تنقسم إلى مصطلحين:

المسؤولية: إن مصطلح المسؤولية يراد به كل ما يتحمله مسؤول تناط بعهدته أعمال تكون تبعة نجاحها أو إخفاقها عليه.

أما العقدية: فهي مصطلح مشتق عن لفظ عقد وهو اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص بمنح أو فعل أو امتناع عن فعل.

الفرع الثاني:

 تعريف المسؤولية العقدية اصطلاحًا

اصطلاحًا: يراد بالمسؤولية: الجزاء الذي يترتب على المرء عند إخلاله بقاعدة من قواعد السلوك ويختلف هذا الجزاء باختلاف نوع القاعدة المخل بها.

أما المسؤولية العقدية: فهي جزاء الإخلال بالالتزامات الناشئة عن العقد أو عدم تنفيذها أو تأخر فيها، وهذه المسؤولية لا تقوم إلا عند استحالة التنفيذ العيني، ولم يكن من الممكن إجبار المدين على الوفاء بالتزاماته المتولدة عن العقد عينا فيكون، المدين مسؤولاً عن الأضرار التي يسببها للدائن نتيجة عدم الوفاء بالالتزامات الناشئة عن العقد، كما يتعين بقاء المتعاقدين في دائرة القوة الملزمة للعقد ما بقي التنفيذ العيني بالالتزام الناشئ عنه ممكنًا، بحيث لا يكون لأيهما المطالبة بالجزاء الذي فرضه القانون لهذه القوة الملزمة بأعمال المسؤولية العقدية إلا إذا استحال تنفيذ هذا الالتزام نهائيًّا وبصفة مطلقة، كون أن العقد هو شريعة المتعاقدين حسب المادة 106 من القانون المدني الجزائري، فلا يجوز للدائن ان يعدل عن التنفيذ العيني متى كان ممكنًا إلى اقتضاء التعويض، كما لا يجوز للمدين أن يمتنع عن التنفيذ العيني ليعرض تعويض عنه أي مقابله، كون أن المسؤولية العقدية في حقيقتها هي جزاء إخلال أحد المتعاقدين بالتزام ناشئ عن العقد الذي أبرمه ولا صلة لها بالتنفيذ العيني للالتزام[2].

المطلب الثاني:

شروط المسؤولية العقدية

حتى تقوم المسؤولية العقدية وجب توافر شرطين أساسيين، وجود عقد صحيح وأن يخل المدين بتنفيذ التزامه.

الفرع الأول:

وجود عقد صحيح

لا يمكن إعمال قواعد المسؤولية العقدية إلا إذا وجد عقد قائم بين الأطراف، صحيحًا ومرتبًا لأثاره. فإن لم ينعقد العقد من أساسه وإن تضرر أحد الأطراف في مرحلة المفاوضات –مثلا- فلا مجال لقيام المسؤولية العقدية وعلى ذلك فإنه لا يترتب على العدول مسؤولية في مرحلة المفاوضات.

كما تستبعد المسؤولية العقدية في حالة الضرر الذي يصيب الأطراف بعد انقضاء الرابطة العقدية بسبب فسخها أو لأي سبب آخر وليس أمام المضرور إلا إعمال قواعد المسؤولية التقصيرية.

الفرع الثاني:

 إخلال بالتزام عقدي

يجب أن يكون الضرر الذي أصاب المتعاقد ناتجًا عن إخلال المتعاقد الآخر بالالتزامات التي رتبها في حقه العقد، أي تلك الشروط المتفق عليها مسبقًا من طرف المتعاقدين.

كما يدخل ضمن الالتزامات التعاقدية مستلزمات العقد من قواعد قانونية مكملة وعادة وعرف والتي لا تطبق حين تستبعدها إرادة كما أكدت ذلك المادة 107 الفقرة الثانية من القانون المدني التي ورد فيها: "... لا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه فحسب، بل يتناول أيضًا ما هو من مستلزماته وفقًا للقانون، والعرف، والعدالة، بحسب طبيعة الالتزام"[3].

فللمتضرر إذن أن يدفع بالمسؤولية العقدية عند الإخلال بالتزامات التي تضمنها العقد صراحةً، وكذلك تلك التي تدخل في دائرة التعاقد لكونها من مستلزمات العقد في ضوء الأحكام القانونية والعرفية وكذا العدالة وطبيعة المعاملة.


المبحث الثاني:

أركان المسؤولية العقدية

لقد نص المشرع الجزائري في القانون المدني على العديد من الأحكام التي تلزم أطراف العقد على احترام الالتزامات الناشئة عن العقد، باعتبار العقد شريعة للمتعاقدين وبالنتيجة الحث على تنفيذه، فنصت المادة 106 منه على أن "العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه، ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون، كما نصت المادة 107 أنه يجب تنفيذ العقد طبقًا لما اشتمل عليه وبحسن نية.

وورد في المادة 164 إمكانية إجبار المدين على تنفيذ التزاماته عينًا بعد أعذاره طبقًا للمادتين 180 و181 متى كان ذلك ممكنًا، وعليه فإن المبدأ الذي تضمنته المادة 106 من القانون المدني يقوم على أساسيين، الأساس الخلقي والمتمثل في وجوب احترام العهد الذي يقطعه المتعاقد على نفسه، والأساس الاقتصادي وهو ضرورة استقرار المعاملات بين الأفراد.

والإخلال بهاذين الأساسيين يعني عدم احترام وتنفيذ أحد المتعاقدين لمبدأ "العقد شريعة المتعاقدين" الذي يعتبر أساس القوة الملزمة للعقد، وهو ما يقضي بقيام كل طرف بتنفيذ التزامه التعاقدي طبقًا لما اشتمل عليه وبحسن نية.

فعدم التزام أي طرف بما فرضه عليه العقد من التزامات يرتب مسؤوليته، وأساس المسؤولية هنا هو العقد ويستوي أن يكون هنا عدم التنفيذ هو الامتناع التام عن تنفيذ الالتزام الذي فرضه أو التأخر في تنفيذه أو إساءة تنفيذه، ومن ثم فإن المسؤولية العقدية تهدف إلى جبر الضرر الذي لحق بالمتعاقد الآخر، وهذا ما يعرف بالتنفيذ عن طريق التعويض أو التنفيذ بمقابل، ولكي تقوم المسؤولية العقدية إذن، وجب توافر ثلاثة أركان هي: خطأ عقدي وضرر يلحق بالدائن وعلاقة سببية بين الخطأ والضرر، وهو الأمر الذي سنعالجه من خلال ثلاثة مطالب كما يلي:

المطلب الأول:

الخطأ العقدي

إن دراسة الخطأ العقدي كأول ركن من أركان المسؤولية العقدية يستدعي تفصيل أحكامه في القانون المدني الجزائري والقانون المقارن كما يلي:

الفرع الأول:

 الخطأ العقدي في القانون المدني الجزائري

ورد في نص المادة 176 من ق.م.ج أنه: "إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينًا حكم عليه بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزامه، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ نشأت عن سبب لا بد له فيه، ويكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه".

فالمدين الذي لا ينفذ الالتزام الذي رتبه العقد في ذمته أو يتأخر في تنفيذه أو يسيء تنفيذه يقوم في حقه أول ركن من أركان المسؤولية العقدية ألا وهو الخطأ، ما لم يثبت أن سببًا أجنبيًّا حال بينه وبين الوفاء ولا يهم بعد ذلك ما إن كان عدم التنفيذ بصفة عمدية أو غير عمدية أو كان نتاج إهمال من المدين ولا يهم كذلك ما إن كان عدم التنفيذ كليًّا أو جزئيًّا أو معيبًا فالخطأ يقوم بمجرد إخلال المدين بالتزامه وفقا للشكل المتفق عليه في العقد، ولا يمكن دفع مسؤولية المدين إلا إذا أثبت الأخير وجود سبب أجنبي لا يد له فيه حال بينه وبين تنفيذ الالتزام.

وتضيف أن المادة 172 فقرة 2 من القانون المدني الجزائري تكلمت هي أيضًا عن الخطأ ولكن نشير هنا إلى أنها اقتصرت فقط على ما يسمى بالالتزام ببذل عناية وما يجب على المدين بذله حتى يفي بالتزامه.

فالخطأ العقدي حسب هذه المادة يقاس على أساس معيار الرجل العادي وهذا المعيار ناتج عن فكرة مجردة يرجع في تحديدها إلى الرجل العادي الذي ينتمي إلى فئة اجتماعية يكون المدين بالالتزام فردًا منها، فيقارن بذلك سلوكه إذا ارتكب خطأ بسلوك الرجل العادي من نفس الفئة إذا ما وضع في نفس الظروف[4].

الفرع الثاني:

 الخطأ العقد في القانون المقارن

لقد كانت هناك نظرية قديمة تعرف بنظرية تدرج الخطأ غير العمد، وهذه الأخيرة نسبت إلى القانون الروماني ولكن هي ليست منه، بل هي من خلق القانون الفرنسي القديم. واعتمدها عدة شراح للقانون الفرنسي القديم وخاصة الفقهيين دوما الذي رسم خطوطها الرئيسية، وكذا بوتييه[5]. حيث أنها تقسم الخطأ بحسب درجة خطورته إلى ثلاثة أقسام: خطأ جسيم وهو الخطأ الذي لا يرتكبه حتى الشخص المهمل هو ما يكون أقرب ما يكون إلى الخطأ العمد ويلحق به، خطأ يسير وهو الخطأ الذي لا يرتكبه شخص معتاد، وخطأ تافه وهو الخطأ الذي لا يرتكبه شخص حازم حريص.

فإن كان المدين لا يسأل إلا عن خطئه الجسيم وذلك إذا كان العقد في مصلحة الدائن وحده ولكن يسأل عن خطئه اليسير إذا كان العقد في مصلحة الطرفين، أما فيما يخص الخطأ التافه فيسأل عنه في حالة ما إذا كان العقد في مصلحته لوحده، إلا أن هذه النظرية انتقدت كثيرًا وهجرت في القانون الحديث، فالقانون المدني الفرنسي هجرها عندما أقر في مادته 1147 أن المدين مسؤول عن تنفيذ التزامه، حتى يثبت أنه امتنع عن ذلك لسبب أجنبي لا يد له فيه، فهي بذلك تقرر عبارة عامة أن عدم أن تنفيذ المدين لالتزامه هو خطأ عقدي وبذلك يكون المدين مسؤولاً عن هذا الخطأ إلا إذا نفى علاقة السببية بإثبات السبب الأجنبي. فهذه المادة إذن تنطبق على جميع الالتزامات، وتكون بذلك تعرضت إلى ركنين في المسؤولية العقدية، وهما ركن الخطأ وركن العلاقة السببية.

أما التشريع المصري فقد تبنى هذا التوجه الحديث واستبعد النظرية القديمة التي تعتمد على تدرج الخطأ، ويظهر ذلك في المادة 215 من القانون المدني المصري والتي جاء مضمونها أن المدين ملزم بالتعويض بمجرد عدم وفائه بالتزاماته التعاقدية وهذا ما لم يثبت أن عدم التنفيذ راجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه[6].

ويضاف أن التشريع اللبناني اعتمد أيضًا توجه المشرع الفرنسي في رأيه حول الخطأ العقدي بحيث يستدل من المادة 254 من قانون الموجبات والعقود اللبناني أن مجرد عدم تنفيذ الالتزام يرتب المسؤولية العقدية على المدين به، ما لم يستطع التذرع باستحالة التنفيذ التي نصت عليها المادة 341[7]. فعدم التنفيذ يشكل الخطأ العقدي، والمشرع اللبناني في مجموع نصوصه اعتمد على معيار عناية الرجل العادي أو رب الأسرة.

الفرع الثالث:

 تحديد الخطأ المنشأ للمسؤولية العقدية

أن الخطأ العقدي وكما سبق الإشارة إليه يراد به عدم تنفيذ المدين لالتزامه التعاقدي يفرضه عليه العقد، ويستوي في ذلك أن يكون عدم التنفيذ ناشئ عن عمد أو مجرد إهمال أو أي سبب آخر والأصل أن المدين يكون مسؤولاً عن خطئه الشخصي، ولكن هذا لا يعني أن لا يكون المدين مسؤولاً عن عمل الغير أو عن الأشياء التي تكون في حراسته التي يستخدمها لتنفيذ الالتزام وهو الأمر الذي سنحاول معالجته ولذلك سنتطرق من خلال هذا المطلب في فرعين نعرض في الأول الخطأ العقدي في مسؤولية المدين عن عمله الشخصي ونتعرض في الثاني إلى الخطأ العقدي عن فعل الغير وعن فعل الأشياء.

أولا: الخطأ العقدي عن الفعل الشخصي:

إن عدم تنفيذ الالتزام يختلف باختلاف نوع الالتزام، أي بحسب ما إذا كان التزام بتحقيق نتيجة أو التزام ببدل عناية أو بتحقيق السلامة في عقود النقل.

1_ الالتزام بتحقيق نتيجة:

كالالتزام بنقل الملكية أو التزام البناء بإقامة جدار فنها يكفي عدم تحقق الغاية لقيام ركن الخطأ العقدي في حق المدين، أما إذا أراد المدين دفع المسؤولية العقدية فما عليه إلا إقامة الدليل على وجود سبب أجنبي حال وعدم التنفيذ كما نصت على ذلك صراحة المادة 176 من القانون المدني الجزائري.

2_ الالتزام ببذل عناية:

هنا المدين لا يلزم بتحقيق الهدف النهائي الذي يسعى إليه الدائن، بل يكون مضمون أدائه للالتزام وسيلة للوصول إلى الهدف النهائي، ومثال ذلك أن لا يلتزم المحامي بكسب قضية موكلة، بل يلتزم ببذل عناية، باتخاذ كافة الإجراءات المتطلبة ببذل مقدار معينًا من العناية التي يبذلها الشخص العادي "أي محامي آخر"، وقد تزيد أو تقل هذه العناية طبقًا لما يقرره القانون أو الاتفاق ويكون المدين قد نفذ التزامه التعاقدي إذا بذل العناية المطلوبة منه حتى لو لم يتحقق الهدف أو الغاية من الالتزام، كما أن مسؤولية المحامي لا تقوم قانونًا إلا إذا أثبت الموكل أن الضرر الذي أصابه كان نتيجة إهمال أو تقصير في الدفاع عن مصالحه، كما أن القانون الجزائري يفرض هذه العناية على المستأجر المادة "495 من ق.م." والمودع لديه "المادة 592/2 على 544" ...إلخ.

فلا يكفي من الدائن هنا إثبات عدم تنفيذ الالتزام بل عليه إثبات الخطأ المتمثل في أن المدين لم يبذل في تنفيذ التزامه العناية المطلوبة وعلى المدين إذا أراد نفي مسؤوليته إقامة الدليل على وجود سبب أجنبي طبقًا لنص المادة 172/1 من القانون المدني الجزائري التي ورد فيها: "في الالتزامات بعمل، إذا كان المطلوب من المدين أن يحافظ على الشيء، أو أن يقوم بإدارته أو أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي، ولو لم يتحقق الغرض المقصود، وهذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على خلاف ذلك وعلى كل حال يبقى المدين مسؤولاً عن غشه أو خطئه الجسيم".

ج_ الالتزام بالسلامة:

هذا النوع من الالتزام يتعلق في الغالب بعقود النقل، ففي نقل المسافرين مثلاً يتعين على الناقل أن يوصل الراكبين إلى الوجهة المتفق عليها على أن يضمن سلامتهم. ويعتبر ذلك التزام قانوني يقع على عاتق الناقل ويرتب عليه المسؤولية عن الإخلال بذلك.

ويعتبر كل شرط يرمي إلى الإعفاء من هذه المسؤولية مخالفًا للنظام العام ولقد أكد القانون التجاري على هذا النوع من الالتزامات في مادته 62 والتي جاء فيها: "يجب على ناقل الأشخاص، أن يضمن أثناء مدة النقل سلامة المسافر وأن يوصله إلى الوجهة المقصودة في حدود الوقت المعين بالعقد".

فإذا كان ممكنًا للمسافر الذي يطالب الناقل بتعويض عن إخلاله بالتزامه بسلامته، أن يقيم الدليل على إصابته أثناء النقل.

كما نجد أن هذا النوع من الالتزام في عقود المقاولة حيث يلتزم المقاول بضمان سلامة البناء ويعتبر مسؤولاً عن سلامة البناء الذي قام بإنجازه لصالح الدائن.

كما نجد هذا النوع من الالتزام كذلك في عقود البيع أين يكون البائع ملزمًا بتنفيذ التزاماته التعاقدية، ومنها مطابقة السلع للنوعية والجودة المتفق.

ثانيًا: الخطأ العقدي في المسؤولية عن فعل الغير وعن فعل الأشياء

يتحقق الخطأ العقدي كما سبق ذكره، بمجرد عدم وفاء المدين بالتزامه ولا يؤثر في تحققه أن يكون عدم الوفاء راجعًا إلى فعل شخص آخر غير المدين، سواء كان هذا الشخص تابعًا له أو نائبًا أو مساعدًا له في تنفيذ العقد.

هذا وتتحقق مسؤولية المدين أيضًا، إذا كان عدم الوفاء بالالتزام يرجع إلى فعل شيء في حراسة المدين ويستخدمه المدين في تنفيذ التزامه: الأمر الذي يستدعي الوقوف على مفهوم الخطأ العقدي في المسؤولية عن فعل الغير، والخطأ العقدي في المسؤولية عن فعل الأشياء كما يلي:

1_ الخطأ العقدي والمسؤولية عن فعل الغير:

هنا وجب الإشارة بدءًا إلى مسألة في غاية الأهمية والأمر يتعلق بحالة ما إذا كان المدين قد تعهد شخصيًّا بتنفيذ الالتزام فإن خالف التعهد هنا وعهد إلى الغير بتنفيذ الالتزام وامتنع الغير أو تأخر أو أساء تنفيذ الالتزام فهنا تقوم مسؤولية المدين على أساس فعله الشخصي وليس بسبب خطأ الغير والأمر ذاته في حالة ما إذا تدخل الغير لمنع تنفيذ الالتزام بالتواطؤ مع المدين، فالوضع الطبيعي لمسؤولية المدين عن خطأ الغير هي حالة حلول الغير محله حلولاً صحيحًا في تنفيذ التزامه، ويتحقق ذلك إذا كلف المدين الغير أو كان الوضع يفترض أن المدين سوف ينفذ التزامه بواسطة الغير كما هو الحال إذا كان المدين شخص معنوي أو كان التكليف قد فرضه القانون كما هو الشأن بالنسبة لمسؤولية الصغير أو المحجور عليه من خطأ الولي أو الوصي أو القيم في تنفيذ العقود التي عقودها لحسابه[8].

أ_ الأساس القانوني للمسؤولية العقدية عن الغير:

إن ما يمكن ملاحظته فيما يتعلق مسؤولية المدين عن خطأ الغير أن نصوص القانون المدني لم تشر بصفة مباشرة إلى المسؤولية العقدية عن فعل الغير على خلاف النص الذي يقرر القاعدة العامة في المسؤولية التقصيرية عن خطأ الغير، وهو نص المادة 136 من القانون المدني الجزائري الذي يقرر مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة.

غير أن ذلك يستشف بطريق غير مباشر من خلال نص المادة 178 من ق م ج التي ورد فيها "وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب عن عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم، غير أنه يجوز للمدين أن يشترط خطأ هؤلاء الأشخاص[9] إعفائه من المسؤولية الناجمة عن الغش، أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه".

فهنا النص قرر ضمنيًّا إمكانية مسائلة المدين عن الخطأ المرتكب من طرف الغير متى استخدمهم في تنفيذ الالتزام حيث قرر من جهة إمكانية استخدام الغير في تنفيذ الالتزام وأعطى للمدين من جهة أخرى حق اشتراط عدم قيام مسؤوليته عن الخطأ الذي ينجم عنهم ويسبب ضرر للدائن والأمر لا يستقيم إلا إذا كان المدين في الأصل مسؤولاً.


ب_ شروط المسؤولية العقدية عن خطأ الغير:

إن الغير هو من يكون مكلفًا بموجب القانون أو الاتفاق على تنفيذ التزام المدين الأصلي يكون المدين مسؤولاً عنه في الضرر الذي لحق بالدائن.

وخطأ الغير في الالتزام بتحقيق نتيجة يكون من خلال عدم تحقق الغاية المتفق عليها، وفي الالتزام بعناية يكون بعدم بذل العناية المطلوبة، وفي الالتزام بالسلامة يكون بعدم ضمان السلامة كما رأينا فخطأه وخطأ الأصيل سواء، فإذا توافرت هذه الشروط تحققت المسؤولية العقدية عن الغير ويصبح المدين مسؤولاً عن خطأ من استخدمه في تنفيذ العقد، وإذا تحققت مسؤولية المدين عن الغير جاز له أن يرجع على الغير وفقا لقواعد المسؤولية العقدية إذا كان هو الذي كلفه بتنفيذ العقد، أو بإعمال قواعد المسؤولية التقصيرية إذا كان الغير مكلفًا بتنفيذ العقد بمقتضى القانون.

2_ الخطأ العقدي في المسؤولية عن الأشياء:

إذا لم يقم المدين بتنفيذ العقد كان هذا خطأ عقديا كما أسلفنا ذكره، فإذا كان عدم التنفيذ الالتزام العقدي غير راجع لا لفعله الشخصي بل لفعل الشيء أي إلى تدخل إيجابي من شيء أفلت من حراسته، كان المدين مسؤولا مسؤولية عقدية ولكن ليس عن "فعله الشخصي" بل عن "فعل شيء".

أ_ الأساس القانوني للمسؤولية العقدية عن فعل الشيء:

كما سبقت الإشارة أعلاه أن المشرع المدني الجزائري لم يورد صراحة قواعد خاصة بمسؤولية المدين العقدية عن فعل الأشياء كما هو الحال بالنسبة لمسؤوليته عن فعل الغير على خلاف ما ذهب إليه في المسؤولية التقصيرية وإن كان ذلك مستشف ضمنًا غير أنه قد أشار إلى ذلك صراحة في مواطن أخرى كما هو الحال نص المادة 483 من ق م ج التي ورد فيها أنه: "على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع ولا المستأجر بالعين المؤجرة ولا يجوز له أن يحدث بها، أو بملحقاتها أي تغيير يخل بهذا الانتفاع ولا يقتصر ضمان المؤجر على الأعمال التي تصدر منه أم من مأموريه، بل يمتد هذا الضمان إلى كل أضرار أو تعويض مبني على سبب قانوني يصدر من مستأجر آخر أو من أي شخص آخر تلقى الحق عن المؤجر".

فنص المادة هنا قرر صراحة ضمان المؤجر للمستأجر ما يوجد في العين المؤجرة من عيوب تحول دون الانتفاع بها، وجعل المؤجر مسؤول عن الضرر الذي يلحق المستأجر من فعل العين المؤجرة على أساس فعل الشيء وليس على أساس فعل المؤجر الشخصي، مع الإشارة إلى أن في عقد الإيجار فإن حراسة العين المؤجرة تنتقل من المؤجر إلى المستأجر طيلة مدة الإيجار، وبذلك يصبح المستأجر حارسًا أصليًّا للشيء.

كما أن المادة 379 من ق م ج نصت على : "يكون البائع ملزمًا بالضمان إذا لم يشمل المبيع على الصفات التي تعهد بوجودها وقت التسليم إلى المشتري أو إذا كان بالمبيع عيب ينقص من قيمته أو من الانتفاع به بحسب الغاية المقصودة منه حسبما هو مذكور بعقد البيع، أو حسب ما يظهر من طبيعته أو استعماله، فيكون البائع ضامنًا لهذه العيوب ولو لم يكن عالمًا بوجودها..."، فهي تجعل البائع ملزمًا بضمان العيوب الخفية في الشيء المبيع ولو لم يكن عالمًا بها، وهي تعتبر مسؤولية عقدية إنتاجها عقد البيع[10].

ب_ شروط المسؤولية العقدية عن فعل الشيء:

إن مسؤولية المدين عن الضرر الذي ينشأ عن أشياء موجودة في حراسته يستخدمها في تنفيذ الالتزام العقدي لا تقوم إلا إذا توافرت جملة من الشروط نوجزها فيما يلي:

_ أن يسلم المدين الشيء محل العقد للدائن: مثل البائع يسلم الآلة المباعة للمشتري فتنفجر الآلة في يد المشتري وتصيبه بضرر في نفسه أو في ماله، فهنا يصبح البائع مسؤولاً بمقتضى التزامه العقدي المتعلق بضمان العيوب الخفية[11].

_ أن يكون المدين مسؤولاً عن رد الشيء محل العقد للدائن: كما هو حال المستأجر الملزم برد العين المؤجرة للمؤجر بعد انتهاء مدة الإيجار، فيتدخل شيء آخر في حراسة المستأجر كالمواد المتفجرة ويتسبب في حريق العين، فهنا لم يقم المستأخر بتنفيذ التزامه برد الشيء، فيكون مسؤولاً مسؤولية عقدية، ولكن لا عن فعله الشخصي بل عن فعل الشيء.

_ أن ينفذ المدين العقد باستخدام شيئًا في حراسته ويكون المدين مسؤولاً عن سلامة الدائن بمقتضى العقد: والمسألة هنا شائعة في عقود النقل كأن يصطدم القطار أو تنفجر السيارة أو تسقط الطائرة، فيصاب الراكب بالضرر، فالنقال هنا ملزم نحو الراكب بضمان سلامته أثناء نقله، تقوم المسؤولية العقدية بوجود عقد بين طرفين، ويكون أساس هذه المسؤولية ليس الفعل الشخصي، بل فعل الشيء، وهو لا يعتبر سببًا أجنبيًّا عنه، ولا تدفع به مسؤولية المدين[12].

الفرع الرابع:

إثبات الخطأ العقدي والاتفاق على تعديل أحكام المسؤولية العقدية

إن مسألة إثبات الخطأ العقدي يستلزم التطرق إلى أمرين هامين عبئ الإثبات أي كيف يكون إثبات الخطأ العقد وعلى عاتق من يكون، بالإضافة إلى الأمر الثاني وهو الاتفاق على تعديل أحكام المسؤولية العقدية وهو الأمر الذي سوف نتناوله كما يلي:

أولاً: عبئ إثبات الخطأ العقدي:

سبق القول أن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ الالتزام أو التأخر في تنفيذه أو إساءة تنفيذه، ومن ثم وجب على الدائن المتضرر الذي يطالب بالتعويض عن الضرر الذي لحقه جراء خطأ المدين عبء إثبات عدم تنفيذ هذا المدين لالتزامه أو التأخر فيه أو إساءة تنفيذه، فإذا كان الالتزام بتحقيق نتيجة فعلى الدائن إثبات عدم تحقق هذه النتيجة التي استهدفها، أما إذا كان الالتزام ببذل عناية فعلى الدائن إثبات عدم بذل العناية، وإثبات عدم التنفيذ في الحالة الأولى أيسر منه في الحالة الثانية[13].

وإذا أراد المدين التخلص من التزاماته فما عليه سوى إثبات السبب الأجنبي أي أن عدم تنفيذ التزامه أو التأخر فيه أو أن إساءة التنفيذ كان بسبب لا يد له فيه طبقًا لأحكام المادة 176 من القانون المدني الجزائري.

مع العلم هنا أن انتفاء مسؤولية المدين ليس سببها انعدام الخطأ ولكن انعدام ركن العلاقة السببية بين الخطأ والضرر.

إن الأصل في إثبات الدين وفقًا لم سبق أنه يقع على الدائن فهو المكلف بإثباته، والمدين هو المكلف بإثبات التخلص منه، وهذا هو المبدأ العام الذي جاءت به المادة 323 من القانون المدني التي نصت على ما يلي: "على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه". ولكن مجال تطبيق هذه القاعدة في الإثبات يكون عندما يطالب الدائن المدين بتنفيذ التزامه عينًا، فعلى الدائن في هذه الحالة أن يثبت مصدر الالتزام كالعقد مثلاً، فإذا ادعى المدين أنه نفذه فعليه هو أن يثبت ذلك، وإلا حكم عليه بالتنفيذ العيني.

أما بالنسبة لإثبات الخطأ العقدي، فالأمر يختلف لأن الدائن في هذا الفرض لا يطالب المدين بالتنفيذ العيني للالتزام، بل يطالبه بالتعويض لعدم تنفيذه له. وما دام الدائن هو الذي يدعي أن المدين لم ينفذ التزامه ويطالبه بناءًا على ذلك بالتنفيذ، فإنه يقع عليه عبئ إثبات أن المدين لم ينفذ التزامه[14].

وعليه فإنه في الغالب يقع على عاتق الدائن عبئ إثبات عدم تنفيذ المدين لالتزامه على أن إعمال هذه القاعدة على إطلاقها قد تكتنفه عقبات في إطار بعض الالتزامات المحددة والأمر يتعلق هنا بالالتزامات بتحقيق نتيجة، ذلك أنه إذا كان التزام المدين التزامًا سلبيًّا يتمثل في تعهده بالامتناع عن إتيان عمل ما وأخل المدين به، فإنه يكون من السهل على الدائن إثبات إخلال مدينه بالتزامه المتمثل في خروجه عن مضمون الامتناع الواجب عليه بمقتضى العقد.

لكن الأمر يختلف متى كان المدين ملزمًا بتحقيق نتيجة ايجابية وكان محل التزامه هو إعطاء شيء أو القيام بعمل، إذ يتعذر هنا من الناحية العملية على الدائن إثبات عدم تنفيذ المدين لالتزامه، لأنه يكون ملزمًا بإثبات واقعة سلبية، لذلك فالرأي الغالب يتطلب هنا الوقوف عند حد مطالبة الدائن بإثبات الالتزام ليكلف المدين بإثبات براءة ذمته منه[15]، عملا بالمبدأ العام في الإثبات الذي جاء به المشرع الجزائري في القانون المدني في مادته 323.

ولما كان على الدائن أيضًا أن يثبت الضرر، وكانت علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر مفروضة، فإن الدائن متى أثبت عدم تنفيذ الالتزام وأثبت الضرر الذي أصابه يكون قد اضطلع بما يقع على عاتقه من إثبات، فيستحق التعويض وهذا ما لم ينفي المدين علاقة السببية المفترضة بإثبات السبب الأجنبي طبقًا للمادة 176 من القانون المدني.

فالمدين هو الذي يتحمل عبئ نفي الخطأ العقدي سواء كان الالتزام بتحقيق نتيجة أو ببذل عناية، أو ضمان السلامة، سواء كان الدائن يرجع على المدين بالتنفيذ العيني أو بالتنفيذ بطريقة التعويض[16].

هذا وتتمة لتحليل الخطأ كشرط أساسي لقيام المسؤولية العقدية، فإننا نلاحظ أن ليس من الضروري أن يصدر هذا الخطأ عن المدين نفسه فقد يصدر هذا الخطأ عن الغير الذي يستخدمه المدين، إما للقيام محله بتنفيذ التزامه بصفة كلية أو بصفة جزئية، أو لأن المدين يكون في حاجة إلى خدماته، فإذا ارتكب هذا الغير خطأ، فإن ذلك يؤدي إلى قيام المسؤولية العقدية في جانب المدين الذي استخدمه.

كما أنه تقرر مثل هذه المسؤولية في جانب المدين أيضًا إذا تسبب الشيء الموجود تحت تصرفه في الإضرار بدائنه إعمالاً لمبدأ مسؤولية المدين عن فعل الشيء وفي كلتا الحالتين، أي سواء كانت مسؤولية المدين قد تقررت عن فعل الغير أن عن فعل الشيء، فإن المدين يسأل عنها طبقًا للقواعد العامة التي تحكم مسؤوليته عن فعله الشخصي[17].

إن ما يمكن ملاحظته في الختام أن القضاء قد ساير الموقف المعتمد من طرف المشرع فيما يتعلق مسألة إثبات الخطأ حيث جاء عن المحكمة العليا في قرارها الصادر عن الغرفة المدنية بتاريخ 19 نوفمبر 1990 تحت رقم 63149، تأكيدًا لمبدأ أن على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه[18]، وبالإضافة إلى أن الحكم بالتعويض دون إثبات الالتزام يعد خرق لأحكام القانون وهذا ما جاء به القرار الصادر عن المحكمة العليا عن الغرفة المدنية بتاريخ 17/06/1987 تحت رقم 49174، كما أنه قد حكمت المحكمة العليا في قرارها والذي يعتبر مشهورًا والصادر عن الغرفة الاجتماعية بتاريخ 28 ماي 1990 ملف رقم 41112 والذي جاء فيه بأن التزام رب العمل بالاحتفاظ بالعامل أو إرجاعه إلى منصب عمله هو التزام بعمل يستحيل تنفيذه قهرًا أو جبرًا، ويتم حسمه على شكل تعويضات طبقًا لأحكام المادة 176 ق.م وعليه فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقًا للمبادئ القضائية المستقر عليها[19].

وفي قرارها الصادر أيضًا عن الغرفة المدنية بتاريخ 30/03/1983 تحت رقم 27429 والذي تضمن الالتزام بضمان السلامة، أن مسؤولية ناقل المسافرين وفقًا للمادة 62 من قانون تأمين تلقي على عاتقه التزامًا بضمان سلامة المسافر وهو التزام بضمان السلامة، فإذا أصيب المسافر بضرر أثناء تنفيذ عقد النقل تقوم مسؤولية الناقل عن هذا الضرر بغير حاجة إلى إثبات وقوع خطأ في جانبه، ولا تدفع هذه المسؤولية، إلا إذا أثبت أن هذا الحادث وقع أو نشأ عن قوة قاهرة أو عن خطأ المسافر المضرور أو الخطأ ناشئ عن الغير[20].

وقد حكمت أيضًا المحكمة العليا في قرارها الصادر عن الغرفة التجارية والبحرية بتاريخ 19/02/1989 تحت رقم 55935 أن عدم تنفيذ الالتزامات التعاقدية من طرف البائع، وعدم مطابقة السلع للنوعية والجودة المتفق عليها تكون محل ضمان البائع وليس الناقل[21].

ثانيًا: الاتفاق على تعديل أحكام المسؤولية العقدية

يعتبر العقد شريعة المتعاقدين، فهو يلزم أطرافه كما تلزم القاعدة المخاطبين بها سواء بسواء ومن ثم فإنه لا يجوز نقضه ولا تعديله إلا بالاتفاق بين الطرفين أو بالأسباب التي يقررها القانون.

وعليه للمتعاقدين حرية الإنفاق على تنظيم الالتزامات المترتبة عن العقد فإرادة المتعاقدين هي وحدها هي التي تحد نطاقه ومجاله وشروطه وآثاره، وتعد المسؤولية العقدية إحدى آثاره، وعليه يجوز للمتعاقدين تنظيم وتعديل أحكامها في حدود طبيعة العقد مع مراعاة ما يفرضه النظام العام والآداب العامة. وهذا ما أقرته المادة 172 من القانون الجزائري بقولها: "يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ أو القوة القاهرة"، وهذا نوع من أنواع تشديد المسؤولية.

وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي، إلا ما ينشأ عن غشه، أو عن خطئه الجسيم "غير أنه يجوز للمدين أن يشترط إعفاءه من المسؤولية الناجمة عن الغش، أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه ويبطل كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية الناجمة عن العمل الإجرامي، وفي ذلك تخفيف من المسؤولية.

وعليه فالأصل هو حرية المتعاقدين في تعديل قواعد المسؤولية العقدية في حدود القانون والنظام العام والآداب العامة ولكن قد تطرأ حوادث استثنائية لم يكن في الوسع توقعها ويترتب عن حدوثها أن يصبح تنفيذ الالتزام أمر عسير ومرهقًا بالنسبة للمدين ولم يكن مستحيلاً، وهنا تتدخل إرادة المتعاقدين من أجل تعديل هذا الالتزام، فكيف يتم التشديد والتخفيف والإعفاء من المسؤولية؟.

1_ الاتفاق على التشديد في المسؤولية العقدية:

نصت الفقرة الأولى من المادة 178 من ق.م.ج: "يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ أو القوة القاهرة"، بمعنى أنه يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين مسؤولية عدم التنفيذ ولو كان ذلك راجع إلى حادث مفاجئ أو قوة قاهرة، ويعد هذا نوعًا من التأمين ويأخذ هذا الاتفاق ثلاث صور هي:

أ_ يجوز الاتفاق على جعل الالتزام بعناية التزامًا بتحقيق غاية، ونحن نعلم مقدار الغاية المطلوبة من المدين في تنفيذ التزامه التعاقدي فيكون مسؤولاً عن الفعل العمد وعن أي خطأ جسيم أو يسير أو تافه، حتى الوصول إلى السبب الأجنبي، وتبعًا لهذا التدرج تتدرج المسؤولية "مأخوذة من نظرية الخطأ المهجورة"[22].

ب_ يجوز الاتفاق مقدمًا على تشديد أو تقدير التعويض الذي يستحق على أحدهما نتيجة إخلاله بالالتزام العقدي، بحيث يستحق هذا التعويض الاتفاق دون الحاجة إلى إثبات الدائن ضررًا أصابه، وهذا ما يسمى بالشرط الجزائي، وعلى المدين عبء إثبات انتفاء الضرر.

ج_ يجوز الاتفاق على التزام المدين بتعويض الدائن عن كافة الأضرار التي تحل به نتيجة الإخلال بالالتزام التعاقدي بما في ذلك الضرر غير مباشر والضرر غير المتوقع الذي لا يعوض عنه في الأصل[23].

2_ الاتفاق على التخفيف من المسؤولية العقدية

كقاعدة عامة يجوز أيضًا الاتفاق على التخفيف في المسؤولية العقدية، وهو اتفاق صحيح من الناحية القانونية، فبالنسبة للشرط الجزائي يمكن للقاضي إنقاص مقدار التعويض الاتفاقي إذا تبين أن الضرر الذي حدث للدائن يجاوز قيمة التعويض فيعد هذا الشرط بمثابة اتفاق على التخفيف من هذه المسؤولية طبقًا لنص الفقرة 2 من المادة 184 من ق.م.ج بقولها: "يجوز للقاضي أن يخفض مبلغ التعويض إذا أثبت المدين أن التقدير كان مفرطًا أو أن الالتزام الأصلي نفذ في جزء منه"[24].

ولهذا الاتفاق قيود تحكمه وهي:

أ_ لا يجوز الاتفاق على تخفيف المسؤولية العقدية في حالة غش المدين أو خطأه الجسيم، فالاتفاق يقتصر على الخطأ غير العمدي أو التافه.

ب_ لا يجوز التخفيف من المسؤولية العقدية بالمخالفة لقاعدة تتعلق بالنظام العام مثال ذلك: الاتفاقيات الدولية التي تضع حدًا أقصى وحدًا أدنى للمسؤولية والتي تلزم بها دولتنا لأنها انضمت ووقعت عليها بالنسبة للأضرار والتي تلحق الشخص في جسمه أو صحته أو حياته.

3_ الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية العقدية

نصت المادة 2 من المادة 178 من ق.م.ج: "يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه العقدي، إلا ما ينشأ عن غشه، أو خطأه الجسيم، غير أنه يجوز للمدين أن يشترط إعفاءه من المسؤولية الناجمة عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه"، فطبقًا لهذا النص يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه.

كما يمكن الاتفاق على الإعفاء منها كلية في الحالتين الخطأ العمد والخطأ الجسيم[25]. فإذا وقع شرط الإعفاء صحيحًا فإنه يترتب عليه إعفاء المدين من المسؤولية العقدية بالقدر الذي جاء فيه هذا الشرط، وإذا وقع شرط الإعفاء باطلاً، فيبطل الشرط ويبقى العقد صحيحًا إلا إذا كان هذا الشرط هو الدافع للتعاقد، فيبطل العقد كله طبقًا لفكرة الباعث غير المشروع ويستطيع المدين أن يؤمن نفسه من المسؤولية العقدية من كل الأخطاء عدا الخطأ العمد، وكذا ضد كل خطأ صدر عن الغير الذين يستخدمهم في تنفيذ التزامه أيا كانت درجة هذا الخطأ[26] وعلى المدين الذي يتمسك بشرط الإعفاء أن يثبت وجوده رغم صعوبة ذلك في بعض الأحيان أو الحالات الخاصة إذا كان الشرط مكتوبًا في ورقة مطبوعة، كتذكرة أو بوليصة تأمين، فنكون أمام حالتين:

إما أن الدائن لم يرى الشرط ولا يعتبر قابلاً له أو رآه ولم يعترض عليه فهذا الشرط "شرط إذعان"[27]، ويقع عبء إثبات الاتفاق أو الشرط المعدل لأحكام المسؤولية العقدية على عاتق من يتمسك به، الدائن في حالة تشديد المسؤولية والمدين في حالة تخفيفها أو الإعفاء منها، ولكي يستطيع المدين إعفاء من المسؤولية عليه أن ينفي العلاقة السببية بين عدم تنفيذ الالتزام أي خطئه وبين الضرر الذي وقع للدائن، وهذا سنتطرق إليه لاحقًا في إطار نفي العلاقة السببية.

المطلب الثاني:

الضرر في المسؤولية العقدية

تناولنا في المطلب الأول من المبحث الثاني الركن الأول في مسؤولية العقدية وهو الخطأ العقدي والذي ينشأ عن عدم تنفيذ المدين التزامه العقدي الناشئ عن العقد سواء كان عدم تنفيذ كلي أو جزئي، أو حت تأخر في التنفيذ.

فوقوع الخطأ لا يكفي وحده القيام بالمسؤولية العقدية وإنما يجب أن يترتب عن هذا الخطأ ضرر للدائن والذي عليه إثباته، وهذا هو الركن الذي في المسؤولية العقدية. بالإضافة إلى أنه رغم وقوع الخطأ العقدي من المدين وحصول ضرر للدائن لا يكفيان لقيام المسؤولية العقدية في حق المدين، بل لا بد أن يكون هذا الخطأ هو السبب في حدوث هذا الضرر وهذا يعني وجود علاقة سببية بينهما وهي الركن الثالث في المسؤولية العقدية الذي يجب توافره حتى تظهر وتقوم هذه المسؤولية. الأمر الذي يستلزم الوقوف على ركن الضرر، ونتناول فيه مفهومه وأنواعه، ثم شروطه وإثباته والتعويض عنه.

المبحث الثاني:

الضـرر

الضرر هو الركن الثاني في المسؤولية العقدية، فلا يكفي لقيامها وقوع خطأ فقط ولكن وجب أن يترتب عن هذا الخطأ ضرر يصيب الدائن حسب نص المادة 176 من القانون المدني الجزائري.

والضرر هو مقياس مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن نتيجة الخطأ العقدي الذي وقع على عاتق المدين من خلال عدم تنفيذه التزامه التعاقدي ومن ثمت فإن انتقاء عنصر الضرر يحول وقبول دعوى المسؤولية طبقًا لقاعدة "لا دعوى بدون مصلحة"[28].

وعليه فإن دراسة الضرر تستدعي منا الوقوف على مفهومه وأنواعه في مطلب أول، ثم شروطه وكيفية إثباته والتعويض عنه في مطلب ثاني.

المطلب الأول:

مفهوم الضرر

إن تحديد مفهوم الضرر يستلزم التعريف به والوقوف على أنواعه في الفروع التالية:

الفرع الأول:

تعريف الضرر

عرف الفقه الضرر على أنه: "الأذى الذي يصيب الشخص من جراء المساس بحق من حقوقه أو بمصلحة مشروعة له سواء تعلق ذلك الحق أو تلك المصلحة بسلامة جسمه أو عاطفته أو بماله أو حريته أو شرفه، أو غير ذلك"[29].


كما عرف بأنه "الأذى الذي يلحق شخص في حق من حقوقه أو مصلحة مشروعة له سواء أكان ذلك الحق أو تلك المصلحة ذات قيمة مالية أو أدبية"[30]، فالضرر هو أساس المسؤولية المدنية وعلتها من حيث وجودها وانعدامها فلا مسؤولية مدنية دون ضرر مهما بلغت درجة جسامة الخطأ.

وعلى العموم فإن كل التعريفات التي ورد بخصوص الضرر ركزت على مفهوم الخسارة التي تلحق بذمة الدائن جراء امتناع المدين عن تنفيذ الالتزام وعليه فإن الضرر هو الخسارة التي تلحق بالدائن سواء كانت مادية أو معنوية.

الفرع الثاني:

أنواع الضرر

إن الضرر الذي يلحق بالدائن جراء عدم وفاء المدين بالتزامه قد يكون ماديًا وقد يكون معنويًا.

وإذا كان التعويض عن الضرر المادي محل إجماع الفقه والقضاء، غير أن الجدل ثار بخصوص الضرر المعنوي من حيث كونه مستوجب للتعويض من عدمه وذلك قبل أن يتم استحداث نص المادة 182 مكرر من القانون المدني التي تحدثت عن الضرر المعنوي، بموجب تعديل القانون المدني بالقانون رقم 05/01 المؤرخ في 20/06/2005 والتي نصت على أن: "يشمل التعويض عن الضرر المعنوي كل مساس بالحرية أو الشرف أو السمعة".

1_ الضرر المادي:

يقصد بالضرر المادي تلك الخسارة أو الأذى الذي يصيب الدائن في ماله أو في جسمه أو تفويت فرصة كسب مال عليه.

والضرر بهذا الوصف يراد به المساس بمصالحة مالية تنقص أو تعدم الذمة المالية للمتضرر.

وبصورة عامة يشكل الضرر تعديًّا على حق من حقوق الإنسان في سلامة نفسه وممتلكاته فينتقص منها أو يعطلها أو يتلفها أو يغتصبها أو يحول دون امتلاكها أو استعمالها أو استثمارها.

ولما كان العقد ينظم روابط مالية من حيث الأساس فإن الضرر المادي هو الأصل والأكثر شيوعًا في المسؤولية العقدية على خلاف الضرر المعنوي[31].

وعلى العموم يمكن القول بأن الضرر المادي هو تلك الخسارة المالية الاقتصادية التي تلحق الشخص نتيجة المساس بحق من حقوقه أو بمصلحة مشروعة، وتتجسد هذه الخسارة المادية في انتقاص من الذمة المالية للشخص المضرور أو تفويت فرصة كسب مالي عليه.

كما أشارت إلى ذلك المادة 182 من القانون المدني على أنه: "... يشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب..."، والملاحظ أن العبرة متعلقة بطبيعة الخسارة التي لحقت بالمضرور، فإن كانت ذات طابع اقتصادي ومالي، فالضرر يكيف على أنه ضرر مادي.

2_ الضرر المعنوي:

يقصد بالضرر المعنوي أو الأدبي ذلك الأذى الذي يصيب الشخص في شعوره، أو عاطفته أو كرامته وسمعته أو في جسمه فيلحق به آلام أو يحدث فيه تشويه وعاهات. وهذا النوع من الضرر نجده أكثر شيوعًا في المسؤولية التقصيرية التي يكون مصدرها العمل غير المشروع، فوقوعه في المسؤولية العقدية نادر جدا، إذ أن الأصل في الشخص هو التعاقد على شيء ذي قيمة مالية. ولكن هذا لا يمنع من أن تكون هناك مصلحة أدبية للمتعاقد في تنفيذ العقد، ومن أمثلة الضرر المعنوي الذي يلحق بالفنان إذا تعاقد مع شخص على عمل فني وفسخ المتعاقد معه العقد فسخًا تعسفيًّا، فيصاب هنا الفنان في سمعته وينتج عن ذلك ضرر معنوي.

المطلب الثاني:

شروط الضرر وإثباته

تطرقنا فيما إلى مفهوم الضرر وأنواعه وسوف نتناول في هذا الفرع مسألة مدى وجوب تحقق الضرر كركن لقيام المسؤولية العقدية ونطاق التعويض المستحق عن الضرر وذلك من خلال الوقوف على الشروط الواجب توفرها في الضرر حتى يكون قابلاً للتعويض. ثم نتطرق إلى مسألة إثبات الضرر.

1_ شروط الضرر:

يشترط في الضرر المستوجب للتعويض شرطان:[32]

_ أن يكون الضرر محقق: يكون الضرر محققًا إذا كان حالاً وواقعًا فعلاً، ومن ثم فإن الضرر الذي يكون محلاً للتعويض إنما هو ذلك الضرر المحقق، وليس مجرد ضررًا افتراضيًّا أو احتماليًّا هو ما أكدته المواد: 131، 182، 182 مكرر من القانون المدني.

أما الضرر المستقبلي فإذا أمكن تقدير التعويض عنه جاز للدائن أن يطالب به فورًا وإذا لم يكن هذا التقدير ممكنًا في الحال فإن القاضي يحكم بالتعويض عما وقع من ضرر حاصل فعليًّا، ويحتفظ المضرور بالحق في أن يرجع بعد ذلك بالتعويض عن استفحال الضرر في المستقبل.

أما بالنسبة للضرر المحتمل فإنه لا يعوض عنه إلا إذا تحقق وتأكد فعلاً، لأن المدين لا يسأل عن تعويض الضرر غير المتوقع، إلا إذا كان ناتجًا عن غشًا أو خطأ جسيم مرتكب من طرف المدين عند تنفيذ الالتزام وفقًا للمادة 172/2 من القانون المدني.

_ أن يكون الضرر مباشر: أي أن يكون نتيجة طبيعية لعدم تنفيذ الالتزام أو التأخر فيه ويكون كذلك إذا لم يكن في استطاعة الدائن أن يتوقاه ببذل جهد معقول وفقًا لنص المادة 182/2 من القانون المدني، على خلاف المسؤولية التقصيرية أين يمكن مسألة المدين عن الأضرار المتوقعة ولا يسأل عن الأضرار الغير متوقعة.

ولا يقصد بالضرر المتوقع الضرر الذي توقعه المدين فعلاً وقت إبرام العقد بل يقصد به الضرر الذي يتوقعه وقت التعاقد الرجل العادي، ويرجع من ثمّ في تقديره إلى معيار مجرد وليس ذاتي، ومثال ذلك: ضياع حقيبة من الحقائب المشحونة عن طريق السكك الحديدية، فالشركة هنا لا تسأل إلا عن القيمة المعقولة لحقيبة عادية "أي الضرر المتوقع"، ولو كان بداخل الحقيبة مجوهرات أو أشياء ثمينة.

ومن هنا، فإن المدين في الالتزامات العقدية لا يسأل كقاعدة عامة إلا عن الضرر المتوقع عادة وقت العقد، تأسيًا على الإرادة المشتركة للمتعاقدين التي لم تقصد الالتزام إلا بما أمكنها توقعه وقت التعاقد.

ومع ذلك إذا كان إخلاله بالتزامه العقدي يرجع إلى غشه أو إلى خطئه الجسيم فإنه يكون مسؤولاً عن جميع الضرر المباشر المتوقع منه وغير المتوقع.


2_ إثبات الضرر

حتى تقوم مسؤولية المدين العقدية لا يكفي امتناع المدين عن تنفيذ الالتزام بل وجب أن ينتج عن هذا الامتناع ضرر يلحق بالدائن ويستوي في ذلك أن يكون هذا الضرر مادي أو معنوي.

هذا وعلى الدائن عبئ إثبات الضرر لأنه هو الذي يدعيه، طبقًا لقاعدة البينة على من يدعي ولا يفترض وجوده لمجرد أن المدين لم ينفذ التزاماته العقدية، مع الإشارة أنه يجب التفرقة بين ما إذا كان الدائن يطالب بالتنفيذ العيني، فإنه لا يطالب بإثبات الضرر، لأن عدم التنفيذ يؤدي إلى ثبوته حتمًا، أما إذا كان الدائن يطالب بالتنفيذ بمقابل، أي التنفيذ بطريق التعويض فعليه في هذه الحالة أن يقيم الدليل على الضرر الذي لحقه من جراء عدم تنفيذ المدين لالتزامه، أو من تأخيره في القيام بتنفيذه.

المطلب الثالث:

العلاقة السببية بين الخطأ العقدي والضرر

إن علاقة السببية بين الخطأ الذي يرتكبه المدين والضرر الذي يلحق الدائن هي ركن أساسي لقيام مسؤولية المدين العقدية، فلا يكفي أن يقع الخطأ من المدين، وأن يلحق ضرر بالدائن حتى تقوم مسؤوليته بل وجب أن يكون هذا الخطأ هو السبب في هذا الضرر وهذا هو معنى العلاقة السببية بين الخطأ والضرر، لأنه بدون توافر هذه العلاقة لا تقوم أية مسؤولية في جانب المدين.

الأمر الذي يستدعي التطرق إلى مسألة إثبات العلاقة السببية في المقام الأول ثم نتناول نفي العلاقة السببية في مقام ثاني.


الفرع الأول:

إثبات العلاقة السببية بين الخطأ العقدي والضرر

سبق القول أن الدائن ملزم بإثبات خطأ المدين والضرر الذي لحق به، غير أن ذلك غير كافي لقيام مسؤولية المدين للوصل إلى التعويض بل وجب عليه أيضًا إثبات علاقة السببية بين خطأ المدين والضرر الذي لحق به، بمعنى آخر وجب عليه أن يثبت أن الضرر الذي لحقه كان بسبب خطأ المدين.

وعلى هذا نلاحظ أن الفقه بخصوص هذا الأمر قد تبنى اتجاهين، فقد ذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى القول بأن الدائن يكون ملزمًا بإثبات هذه العلاقة، وإن كان يرى أن هذه العلاقة تعتبر هينة، لأن الظروف والملابسات المحيطة بالنزاع كثيرًا ما يستشف منها القاضي قيام قرائن قضائية على توافر علاقة السببية، فلا يتطلب الأمر مزيدًا من الإثبات[33].

وأما أصحاب الاتجاه الثاني فيذهبون خلاف ذلك، إذ يرون أن علاقة السببية بين الخطأ والضرر مفترضة لا يطلب من الدائن إثباتها، ويترتب على ذلك أن الدائن ليس عليه إلا أن يثبت أنه قد أصابه ضرر من عدم تنفيذ المدين لالتزامه، بحيث امتنع أو تأخر أو أساء تنفيذ التزامه، ومتى أثبت ذلك فرض في جانب المدين خطأ غير قابل لإثبات العكس، ثم فرض أيضًا أنه هناك علاقة سببية قائمة بين هذا الخطأ المفروض والضرر الثابت، ولكن للمدين أن ينفي هذه العلاقة بإثبات أن الضرر وقع ليس بسبب خطأ المدين وإنما كان نتيجة لسبب أجنبي[34].

فالمدين إذن هو من يقع عليه عبئ إثبات هذه العلاقة إذا ادعى أنها غير موجودة، فالمدين لا يستطيع نفي علاقة السببية إلا بإثبات السبب الأجنبي، ويكون ذلك بإثبات أن الضرر يرجع إلى قوة قاهرة، أو حادث فجائي، أو يرجع ذلك إلى خطأ الدائن نفسه، أو يرجع إلى فعل الغير[35].

وهذا الاتجاه هو الذي تبناه المشرع الجزائري وبذلك قرر أن علاقة السببية بين الخطأ والضرر هي مجرد قرينة بسيطة يمكن إثبات عكسها.

فإذا أثبت الدائن الضرر الذي لحقه وخطأ مدينه فهنا تقوم علاقة السببة بينهما بنص القانون ولا يدرأ عن المدين هذه المسؤولية إلا إثبات السبب الأجنبي. وقد نصت المادة 176 من القانون المدني أنه: "إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزامه، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ نشأت عن سبب لا يد له فيه، ويكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه"، ففي حقيقة الأمر أن هذه المادة تتعلق فقط بركن الخطأ، وتفترض أن استحالة التنفيذ رجع إلى سلوك المدين، وليس لها شأن على الإطلاق بعلاقة السببية بين الخطأ والضرر والذي يظل إثباتها خاضعًا للمبادئ العامة[36].

وتأكيدًا لما جاء فإن المحكمة العليا في قرارها الصادر عن الغرفة المدنية بتاريخ 17/06/1987 ملف رقم 49174 أكدت أنه يقع على الدائن عبء إثبات علاقة السببية بين عدم تنفيذ الالتزام أي الخطأ العقدي، والضرر الذي لحقه. وكذلك في ما يخص افتراض العلاقة السببية إذ في قرارها الصادر عن الغرفة المدنية أيضًا بتاريخ 27/11/1985 ملف رقم 41783 جاءت فيه أن علاقة السببية بين عدم تنفيذ الالتزام وسلوك المدين، فهي مفترضة في نظر المشرع والذي يفترض أن الخطأ راجع إلى الضرر[37]. وعلى المدين إذا كان يدعي عكس ذلك، أن يقوم بنفي علاقة السببية بين عدم التنفيذ وسلوكه. وهذا ما جاء في قرار المحكمة العليا عن الغرفة المدنية بتاريخ 06/1987 تحت رقم 49767[38].

الفرع الثاني:

نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر

سبق القول أنه حتى تتوافر العلاقة السببية يجب أن يكون الخطأ هو السبب في الضرر فإذا رجع الضرر إلى سبب أجنبي انعدمت العلاقة السببية حتى ولو كان الخطأ هو السبب في إحداث الضرر ولكنه لم يكن السبب المنتج أو كان السبب المنتج ولكنه لم يكن السبب المباشر.

وتنص المادة 127 من القانون المدني: "إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كحادث مفاجئ، أو قوة قاهرة، أو خطأ صدر من المضرور أو خطأ من الغير، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر، ما لم يوجد نص قانوني أو اتفاق يخالف ذلك".

من منطلق هذه المادة يتضح لنا أن المدين لا يستطيع أن يدفع المسؤولية عنه إلا بنفي علاقة السببية بين الضرر وعدم تنفيذ المدين لالتزامه وسلوكه وذلك بإثبات السبب الأجنبي، ويقصد به كل أمر غي منسوب إلى المدين أدى إلى حدوث الضرر الذي لحق الدائن، والسبب الأجنبي الذي جعل التنفيذ مستحيلاً، قد يكون قوة قاهرة أو حادثًا فجائيًّا، أو قد يكون خطأ الدائن أو فعل الغير.

أولا: القوة القاهرة أو الحادث الفجائي وأثره

1_ مفهوم القوة القاهرة: قام البعض من الفقهاء بالتفرقة بين القوة القاهرة والحادث المفاجئ، وذلك على أساس أن القوة القاهرة هي ما لا يمكن دفعه أما الحادث الفجائي فهو ما لا يمكن توقعه وأن القوة القاهرة تجعل استحالة التنفيذ مطلقة، أما الحادث المفاجئ فهو يجعل استحالة التنفيذ نسبية فقط، كما أن القوة القاهرة تتعلق بأحداث خارجية كحرب، أو زلزال، فتكون القوة القاهرة هي وحدها السبب الأجنبي الذي يحول دون قيام المسؤولية، أما الحادث الفجائي فلا يمنع عن تحقق المسؤولية.

إن المشرع الجزائري في المادة 127 قانون مدني جرى على اعتبار كلا من القوة القاهرة والحادث المفاجئ مترادفين فهما أسمان مختلفان لمعنى واحد، فإذا نظرنا إليه على أنه غير متوقع الحصول فهو حادث فجائي، وإذا نظرنا إليه من حيث أن لا يمكن دفعه فهو قوة قاهرة، وعليه يمكن تعريفها: "أمر غير متوقع الحصول، وغير ممكن الدفع يجعل تنفيذ الالتزام مستحيل، دون أن يكون هناك خطأ في جانب المدين"، وهذا هو ما اعتبره كذلك الفقه والقضاء في هذا الشأن.

ويشترط في الحادث حتى يكون قوة قاهرة أو حادثًا فجائيًّا أن يكون أمرًا لا يمكن توقعه ولا يمكن دفعه، وأن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً.

أ_ أن يكون الحادث غير ممكن توقع حصوله:

يجب أن يكون هنا عدم التوقع هو الاستحالة المطلقة لا بالنسبية، بحيث يستحيل على الشخص توقعه مهما كانت درجته من اليقظة، فإذا أمكن توقعه فلا يكون قوة قاهرة حتى ولو استحال دفعه.

ويقاس عدم إمكان التوقع معيار الرجل المعتاد أي بالمعيار الموضوعي لا الذاتي، وعدم التوقع في المسؤولية العقدية يكون وقت إبرام العقد[39].


ب_ أن يكون الحادث من غير الممكن دفعه:

يجب أن تكون أيضًا القوة القاهرة أو الحادث الفجائي مستحيل الدفع، فإذا أمكن دفع الحادث حتى لو استحال توقعه لم يكن قوة قاهرة أو حادثًا فجائيًّا.

ج_ أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً:

يجب أن تكون هنا الاستحالة مطلقة وليست نسبية في تنفيذ الالتزام، ويستوي أن تكون هذه الاستحالة مادية أو معنوية، فإذا كانت الاستحالة نسبية أي قاصرة على المدين دون غيره فلا يعتبر الحادث قوة قاهرة ولا يعفى المدين من المسؤولية وهذا الشرط هو الذي يميز في نطاق المسؤولية العقدية بين القوة القاهرة والظروف الطارئة، فالأولى تجعل التنفيذ مستحيلاً مطلقًا وأما الثانية فتجعل تنفيذ الالتزام مرهقًا فقط[40].

ومما سبق فإنه تبين لنا أن للقوة القاهرة أو الحادث الفجائي أثار.

2_ أثار القوة القاهرة أو الحادث الفجائي:

يجب التفرقة هنا بين فرضيتين، الأولى: أن تكون القوة القاهرة هي السبب الوحيد في وقوع الضرر، وفي هذا الفرض تنتفي المسؤولية لانعدام العلاقة السببية، أما الثاني أن تشترك القوة القاهرة مع خطأ المدين في إيقاع الضرر، فإن هذا الأخير يسأل كلية عن الضرر، فيلتزم بالتعويض الكامل لأن القوة القاهرة لا يمكن نسبتها إلى شخص آخر حتى يشترك مع المدين في تحمل المسؤولية.

فإذا كانت القوة القاهرة مانعة بصفة نهائية تنفيذ الالتزام فإن المدين يبرأ نهائيًّا من التزامه، أما إذا كانت مؤقتة فإنها توقف تنفيذ الالتزام حتى يزول الحادث فيصبح الالتزام واجب التنفيذ[41].

وقد حكمت المحكمة العليا فيما يخص هذا الشأن المتعلق بالقوة القاهرة وهذا في قرارها الصادر عن الغرفة المدنية بتاريخ 30 مارس 1983 تحت رقم 27429 فيما يخص بمسؤولية ناقل الأشخاص والذي عليه بالالتزام بضمان سلامة المسافرين والذي يعتبر التزامًا قانونًا، فتضمن القرار الحيثيات التالية:

"حيث عملا بالمادتين 62 و63 من القانون التجاري، يجب على ناقل الأشخاص أن يضمن سلامة المسافر، إلا إذا كان هناك قوة قاهرة أو خطأ من طرف المضرور.

حيث لكي يعفى الناقل أو الحارس للشيء من كل مسؤولية الحادث يجب عليه أن يثبت أن ذلك الضرر حدث بسبب لم يكن يتوقعه، وليس في استطاعته تفاديه.

لكن حيث أن رجوع بعض المسافرين إلى عربات القطار بعد النزول منها أمر متوقع ويمكن تفاديه عن طريق الاعتناء الكامل من طرف حارس المحطة الذي عليه إلا أن يعطي إشارة الانطلاق للقطار إلا بعد التأكد من نزول كل المسافرين، وغلق أبواب القطار..."، وبذلك فالمبدأ هنا الذي أشارت إليه في قرارها هذا هو أنه إذا كان من السائد فقها وقضاء أن العقد شريعة المتعاقدين فإن ذلك الأمر ليس مطلقًا في عقد نقل الأشخاص الذي أوجب فيه القانون على الناقل ضمان السلامة للمسافرين وحمله المسؤولية المترتبة عن إخلاله بذلك الالتزام، واعتبر كل شرط يرمي إلى الإعفاء من تلك المسؤولية مخالف للنظام العام، غير أنه أجاز التخلص منها كلية أو جزئيًّا عن طريق إثبات خطأ المسافر أو القوة القاهرة[42].

كما أنها قضت في قرارها الصادر أيضًا عن الغرفة التجارية والبحرية بتاريخ 11/06/1990 بأنه من المقرر قانونًا أن الخسائر الناتجة عن ارتطام السفن بسبب القوة القاهرة يعفى طاقم السفينة من المسؤولية "المادة 176 قانون مدني والمادة 282/2 ق.بحري"، ومن ثم فإن القضاء بخلاف ذلك يعد مخالفًا للقانون "ولما كان من الثابت" في قضية الحال أن قضاة الاستئناف لما قضوا بمسؤولية طاقم السفينة عن الأضرار اللاحقة بالميناء التي سببتها قوة الرياح، يكونوا قد خالفوا القانون، ومتى كان ذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه[43].

بالإضافة إلى قرارها الصادر عن الغرفة المدنية بتاريخ 02/03/1983 تحت رقم 20310 جاء فيه: "العلاقة التي تربط بصاحب الحمام هي عقد خدمات ومثل هذا العقد يضع على عاتق صاحب الحمام التزامًا بسلامة الزبائن وهو التزام بنتيجة". والمسؤولية فيه مفترضة ما لم يثبت أن الحادث يرجع إلى سبب لا يد له فيه طبقًا للمادة 176 من القانون المدني ومفهوم السبب الأجنبي هو أن يكون غير متوقع ولا يمكن تفاديه ووجود الصابون في بيت الاستحمام شيء متوقع وبوسع المدين أن يتفاداه بتوخي الحيطة، لذلك لا يدخل في حكم السبب الأجنبي[44].

كما استقر الفقه والقضاء على أن التزام صاحب الألعاب الصبيانية هو التزام بسلامة الأولاد، وأن التزام ناقل البضاعة لا ينتهي إلا بتسليم البضاعة، ومسؤولية هؤلاء مفترضة قانونًا ما لم يثبت أن الحادث سببه القوة القاهرة أو فعل الدائن أو خطأ الضحية[45].

الفرع الثالث:

 فعل الدائن

يراد بفعل الدائن الخطأ الذي يصدر عن الدائن شخصيًّا من حيث الأساس والذي يكون السبب المباشر في الضرر الذي يلحق به، فمثل هذا الخطأ، يقطع العلاقة السببية ومن ثم تنتفي مسؤولية المدين العقدية ويتحمل الدائن تبعة خطئه.

وإذا كان فعل الدائن يجمع بين عدم إمكان توقعه واستحالة دفعه فإنه يعتبر سببًا أجنبيًّا[46].

هذا ويثبت كذلك خطأ الدائن متى كان الخطأ مرتكب من طرف أحد أتبعاه، فيتحمل هو مسؤوليته كما إذا عهد إلى عامل تابع له في استلام ما تعهد المدين بتسليمه، فيتأخر العامل عن ميعاد الاستلام.

ففي هذه الحالة لا يكون المدين مسؤولا عن هذا التأخر لأنه وقع بسبب خطأ تابع للدائن، ذلك أن الدائن مسؤول عن خطأ تابعه مسؤولية عقدية وتقصيرية.

وقد يكون الخطأ راجع إلى عيب في الشيء الذي سلمه الدائن للمدين، كأن كان هذا الشيء مشرفًا على العطب فتلف في الطريق، ففي مثل هذه الحالة لا يكون المدين مسؤولاً لأن الضرر قد نشأ عن عيب في الشيء.

وفي هذا الشأن تنص المادة 177 من القانون المدني أنه: "يجوز للقاضي أن ينقص مقدار التعويض، أولا يحكم بالتعويض إذا كان الدائن بخطئه قد اشترك في إحداث الضرر أو أزاد فيه".

وعليه فإنه يشترط لنفي علاقة السببية على هذا النحو أن يكون خطأ الدائن قد استغرق خطأ المدين ومنه نكون هنا أمام أمرين: إن استغرق أحد الخطأين الآخر، والخطأ المشترك.

1_ استغرق أحد الخطأين الآخر: ويكون في حالة ما إذا كان خطأ المدين نتاج لخطأ الدائن، وكان خطأ الدائن أكثر جسامة.

ب_ الخطأ المشترك: ويكون في حالة ما إذا كان خطأ المدين وخطأ المضرور قد قام كل منهما مستقلا عن الآخر، وكان كل منهما قد اشترك في إحداث الضرر، فهنا يعتد بالخطأين في تحديد المسؤولية، فتوزع المسؤولية بين المدين والدائن المضرور حسب درجة كل خطأ منهما.

ثالثًا: فعل الغير

ويقصد بفعل الغير الخطأ الصادر عن شخص أجنبي عن المدين، أي شخص لا تقوم بينه وبين المدين أية علاقة ويسبب ضرر للدائن.

ولا يمكن توقعه ولا تفاديه وأن يكون هذا الخطأ وحده هو المسبب للضرر ولا يعتبر من الغير كل شخص يكون المدين مسؤولاً عنه[47] وكذلك خطأ الغير قد يكون هو السبب الوحيد للضرر، وقد يشترك في إحداثه مع خطأ المدين غير أنه يستغرق خطا المدين أما إذا اشترك خطأ الغير في إحداث الضرر مع خطأ المدين كانت مسؤولية هذا الأخير مسؤولية جزئية.

وفي هذا الإطار قضت المحكمة العليا في قرارها الصادر عن الغرفة المدنية بتاريخ 24/09/1990 رقم 71728 والذي تضمن خطأ الغير، إذ جاء في حيثياته: "حيث أنه عملاً بالمادة 124 فـ 3 من القانون الساري على قضية الحال يسمح للصندوق بمطالبة رد التعويضات التي تولى دفعها إلى حدود التعويض المتكفل به الغير".

حيث أن المادة 127 من نفس القانون "تلزم الضحية أو ذوي الحقوق الذين يرفعون دعوى القانون العام بدعوى الصندوق الاجتماعي للاشتراك في الحكم الذي سيصدر وأن المادة 94 من القانون المدني الجزائري تسمح لمن له مصلحة في النزاع أن يتدخل في أية حالة كانت عليها الدعوى". وجاءت في مبدئها أنه من المقرر قانونًا أنه إذا كانت مسؤولية الغير صاحب الحادثة شاملة أو مشتركة مع مسؤولية المصاب، يسمح صندوق الضمان الاجتماعي بالمطالبة برد التعويضات التي تولى دفعها إلى حدود التعويض المتكفل به الغير ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد مخالفًا للقانون.

ولما كان من الثابت في –قضية الحال- أن قضاة المجلس بقضائهم برفض دعوى صندوق الضمان الاجتماعي كونها لم تقدم على انفراد بالنسبة للدعوى الأصلية المقدمة من طرف الضحية خالفوا القانون ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه[48].

ومنه فإننا نصل إلى القول بأن السبب الأجنبي يترتب عنه انتفاء مسؤولية المدين عن الإخلال بالالتزام الذي رتبه العقد في ذمته، ولا يكون للدائن أن يطالبه بالتعويض عنه "المادة 127، 176 قانون مدني".

وذلك ليس لانقطاع علاقة السببية بين الخطأ والضرر، ولكن لانتفاء خطأ المدين الذي أشار إليه المشرع في المادتين 172 و176 من القانون المدني، وقد نصت المادة 307 من القانون المدني صراحةً بأنه: "ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء به أصبح مستحيلاً عليه لسبب أجنبي عن إرادته".



[1]  علي فيلالي: الالتزامات، العمل المستحق للتعويض، الجزء الثاني، طبعة 2002، دار موفم للنشر والتوزيع، الجزائر، ص2.

[2] العربي بلحاج، النظرية العامة للالتزام في القانون المدني الجزائري، ج1، ديون المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2004، ص264-266.

[3] أنطر المادة 107 من القانون المدني الجزائري.

[4] د. العربي بلحاج، النظرية العامة للالتزام في القانون المدني الجزائري، ج1، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2004، ص274.

[5] عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، مصادر الالتزام بوجه عام، ج1، دار النشر للجامعات، 1982، ص662.

[6] عبد الرزاق السنهوري: المرجع السابق، ص664.

[7] مصطفى العوجي: المسؤولية المدنية، الجزء الثاني، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، سنة 2004، ص32.

[8] أنور سلطان، الموجز في مصادر الالتزام، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1996، ص253-254.

[9] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[10] د. العربي بلحاج: المرج السابق، ص278.

[11] د. علي سليمان: دراسات في المسؤولية المدنية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1984، ص160.

[12] د. عبد الرزاق السنهوري: المرجع السابق، ص670-671.

[13] العربي بلحاج: المرجع السابق، ص279.

[14] د. ثروت حبيب: المصادر الإرادية في القانون المدني الليبي، بنغازي، 1972، ص375-381.

[15]  المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[16] بلحاج العربي: المرجع السابق، ص280.

[17] د. علي علي سليمان: المرجع السابق، ص78.

[18] المحكمة العليا، غ.م 19/11/1990 ملف رقم 63149، المجلة القضائية 1992، عدد1، ص20.

[19] المحكمة العليا، غ.اج 28/05/1990 ملف رقم 41112، المجلة القضائية 1992، عدد2، ص117.

[20] المحكمة العليا، غ.م 30/03/1983 ملف رقم 27429، المجلة القضائية 1989، عدد1، ص42.

[21] المحكمة العليا، غ.ت/ب 19/02/1989 ملف رقم 55935، المجلة القضائية 1990، عدد3، ص124.

[22] د. عبد الرزاق السنهوري، المرجع السابق، ص673 إلى 675.

[23] المرجع نفسه، ص675.

[24] محمد خسين منصور: مصادر الالتزام، العقد والإرادة المنفردة، الدار الجامعية، بيروت، لبنان، 2000، ص379.

[25] محمد صبري السعدي: الواضح في شرح القانون المدني الجزائري، ج1، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، 2007.

[26] د. العربي بلحاج: المرجع السابق، ص283

[27] د. عبد الرزاق السنهوري: المرجع السابق، ص 677-678.

[28] علي فيلالي: الالتزامات، العمل المستحق للتعويض، موفم للنشر، الجزائر، 2002، ص243-244.

[29] العربي بلحاج: المرجع السابق، ص284.

[30] العربي بلحاج: المرجع السابق، ص284

[31] إدريس فاضلي: الوجيز في النظرية العامة للالتزام، دون طبعة، قصر الكتاب للنشر والتوزيع، الجزائر، 2006-2007.

[32] حسن علي الذنون ومحمد سعد الرحو: الوجيز في النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، الجزء الأول، الطبعة الأولى، دار وائل للنشر والتوزيع، الأردن، ص208.

[33] د. ثروت حبيب: المرج السابق، ص391.

[34] محمد حسنين: المرجع السابق، ص120.

[35] عبد الرزاق السنهوري: المرجع السابق، ص688.

[36] بلحاج العربي: المرجع السابق، ص291.

[37]  المحكمة العليا، غرفة مدنية 27/11/1985، رقم 41783 مذكور سابقًا.

[38] المحكمة العليا، غرفة مدنية 03/06/1987، رقم 49767، المجلة القضائية 1990، عدد3، ص30.

[39] أنور سلطان: المرجع السابق، ص357.

[40] د. العربي بلحاج: النظرية العامة للالتزام، ج2، مرجع سابق، ص203

[41] زهدي يكن: المسؤولية المدنية أو الأعمال غير المباحة، بيروت صيدا، ص101 وما بعدها.

[42] المحكمة العليا، الغرفة المدنية 30/03/1983 ملف رقم 27429، المجلة القضائية 1989، عدد1، ص42.

[43] المحكمة العليا، الغرفة التجارية والبحرية، 11/06/1990 ملف رقم 65920، نقلا عن د. العربي بلحاج، النظرية العامة للالتزام، ج1، ص293.

[44] حمدي باشا عمر: القضاء المدني، دار هومه، الجزائر، 2004، ص78.

[45] العربي بلحاج، النظرية العامة للالتزام، ج1، ص293.

[46] د. محمد حسنين: الوجيز في نظرية الالتزام، مصادر الالتزامات وأحكامها في القانون المدني.

[47] زهدي يكن: المرجع السابق، ص107.

[48] المحكمة العليا، الغرفة المدنية 24/09/1990، ملف رقم 71728، المجلة القضائية 1992، عدد2، ص28.