المحور الأول

المحور الأول:

ماهية قاعدة الاسناد

 


المحور الأول:

ماهية قاعدة الاسناد

كما سبقت الإشارة إليه أعلاه فإن موضوع ماهية قواعد الاسناد يستدعي الوقوف على مفهومها وكيفية أعمالها كل ذلك في مبحثين اثنين نتعرض في الأول إلى مفهوم قاعدة الاسناد وفي المبحث الثاني ندرس كيفية إعمال قاعدة الاسناد.

 

المبحث الأول:

 مفهوم قاعدة الإسناد:

إن الوصول إلى مفهوم قاعدة الإسناد يستلزم الوقوف على تعريفها وخصائصها وعناصرها كل ذلك في ثلاثة مطالب كما يلي.

 

المطلب الأول:

تعريف قاعدة الاسناد

على اعتبار أن قاعد الإسناد هي أساس حل مشكلة تنازع القوانين، إذ من خلالها يتحدد القانون الأنسب لحكم العلاقة الدولية التي يتزاحم على حكمها أكثر من قانون، لذلك فإن فقهاء القانون الدولي الخاص أجمعوا على تعريفات متشابهة لقاعدة الإسناد.

فعرفت "بأنها القاعدة التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المراكز القانونية ذات العنصر الأجنبي"[1].

وعرفت بأنها "قاعدة قانونية ترشد القاضي بشأن علاقات قانونية ذات عنصر أجنبي أو أكثر أو بأنها قواعد قانونية يتم بمقتضاها تحديد القانون الواجب التطبيق على المنازعة"[2].

وعرفها البعض الآخر بأنها "القواعد التي تقوم بتحديد القانون الأنسب والأجدر بحكم العلاقة ذات الطابع الدولي والتي يتزاحم على حكمها أكثر من قانون[3].

هذا ويكمن القول أن قواعد الإسناد إذن هي قواعد قانونية وطنية تختص كل دولة بوضعها سواء ضمن نصوص  قانونية مستقلة أو في قوانينها المدنية كما هو الحال بالنسبة للمشرع الجزائري والتي من خلالها يتمكن القاضي من الوصول إلى القانون الواجب التطبيق من بين القوانين المتزاحمة أين يختار أكثرها ملائمة لحكم العلاقة المنطوية على عنصر أجنبي سواء من حيث أطرافها أو موضوعها أو السبب المنشئ لها.

وقواعد الإسناد بهذا الوصف هي قواعد متنوعة بتنوع العلاقات القانونية ذاتها، فمنها ما هو خاص بالأهلية أو الحالة ومنها ما يتعلق بأحكام الزواج والطلاق ومنها ما يتعلق بالعقود الدولية والالتزامات التعاقدية وغير التعاقدية، ومنها ما يتعلق بالأموال.

وعلى العموم فإن قواعد الإسناد تهدف إلى توطين المنازعات ذات الطابع الدولي وتركيزها في قانون دولة معينة باعتبار هذا القانون له صلة أقوى بحكم العلاقة الدولية أكثر من القوانين الأخرى فقاعدة الإسناد إذن هي التي تبحث في مركز الثقل في العلاقة الدولية وبعبارة أخرى قاعدة الإسناد تشير إلى القانون الواجب التطبيق على العلاقة ويكون اختيار هذا القانون عن طريق ضابط يستمد أساسا من معطيات العلاقة ذاتها ومن ثم يكمن القول بأن وظيفتها خاصة تختلف عن الوظيفة العامة لقواعد القوانين الموضوعية التي تتصدى مباشرة لتنظيم العلاقة القانونية[4].

المطلب الثاني:

خصائص قواعد الإسناد

تنفرد قواعد الإسناد بمجموعة من الخصائص الجوهرية باعتبارها أقدر الوسائل الفنية لحل مشكلة تنازع القوانين وتتمثل هذه الخصائص أساسا في كونها أولا هي قواعد وطنية غير مباشرة أو كما يعبر عنها البعض محايدة وأنها مزدوجة ودولية.

أولا: قواعد الإسناد قواعد وطنية المصدر

يعتبر القانون الدولي الخاص كقاعدة عامة قانون من صنع المشرع الوطني ففي كل دولة نجد أن المشرع يعمد إلى وضع قواعد إسناد قد تتفق أو تختلف مع قواعد الإسناد التي تضعها الدول الأخرى ويرجع ذلك إلى اختلاف الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعقائدية بين الدول.

وعلى اعتبار قواعد الإسناد هي قواعد وطنية فإن ذلك يترتب عنه بالضرورة أن تكون هذه القواعد غير مخالفة للقواعد والمبادئ الدستورية داخل الدولة.

ثانيا: قواعد الإسناد غير مباشرة (محايدة)

إن المراد من كون أن قاعدة الإسناد قاعدة غير مباشرة أنها لا تتضمن حلاً مباشرًا للنزاع وإنما هي تشير إلى القانون الذي يتولى حل النزاع وهذا بخلاف القواعد الموضوعية التي تقرر حلا مباشرًا كما هو الحال بالنسبة للمادة 40 من القانون المدني الجزائري التي تقرر مثلا أن سن الرشد هو 19 سنة، فهذه القاعدة قاعدة مباشرة فلو ثار نزاع في مدى صحة العقد أو قابليتها لإبطال بسبب كون أحد المتعاقدين لم يبلغ سن 19 سنة فإن القاعدة المتقدمة تتضمن في ذاتها حلاً للنزاع.

أما إذا كان أحد المتعاقدين أجنبي فإننا لا نلجأ إلى هذه القاعدة مباشرة وإنما نلجأ إلى قاعدة الإسناد التي تتولى تحديد القانون الواجب التطبيق في مشاكل الأهلية ثم نبحث في القانون الذي تشير إليه هذه القاعدة وحدها[5]، ومن ثم فهي لا تحدد القواعد الموضوعية الواجبة التطبيق.

غير أنه يلاحظ أن هناك قواعد إسناد مباشرة كما هو الحال بالنسبة لقواعد الإسناد المنظمة لمسائل الجنسية فهي تتكفل بصفة مباشرة بتبيان مفهوم رعايا الدولة ولا تقوم بالإشارة إلى القانون الذي يتكفل بتحديد هذا الأمر.

والأمر ذاته فيما يتعلق بقواعد الإسناد المتعلقة بمركز الأجانب فهي قواعد مباشرة تحدد الحقوق التي يتمتع بها الأجانب داخل إقليم الدولة والتي تشير إلى القانون الذي تتحدد هذه الحقوق بمقتضاها والأمر ذاته فيما يتعلق قواعد الاختصاص القضائي.

ثالثا: قواعد الإسناد قواعد مزدوجة

نقصد بكون قواعد الإسناد قواعد مزدوجة أنها قواعد تبين حالات تطبيق القانون الوطني وحالات تطبيق القانون الأجنبي[6] وبمعنى آخر أنها قواعد تفترض وتقبل تطبيق القانون الوطني والأجنبي على حد سواء، فبدون هذه الازدواجية لا قيام للتنازع لانتفاء سلطة القاضي في الاختيار فالمادة 10 من ق م ج الخاص بالأهلية ممكن أن تشير إلى  تطبيق القانون الجزائري إذا كان الشخص المطلوب إثبات هويته جزائري وتفسير هذه القاعدة قد يؤدي إلى تطبيق القانون الفرنسي إذا كان الشخص المراد تحديد أهليته فرنسي وهكذا.

وهذا على الرغم من كون أغلب قواعد الإسناد في أغلب التشريعات هي قواعد مزدوجة غير أنه يلاحظ من جهة أخرى بأن بعض التشريعات جاء متأثر بالاتجاه الفقهي المناصر للقواعد المنفردة الجانب والتي تقتصر على بيان حالات تطبيق القانون الوطني كإخضاع أهلية الجزائريين للقانون الجزائري كما هو الحال في نص المادة 13 من ق م ج التي تقضي بتطبيق القانون الجزائري لوحده متى كان أحد الزوجين جزائريا وذلك في مجال انعقاد الزواج وآثاره وانحلالها باستثناء أهلية الزواج.

 

المطلب الثالث:

عناصر قاعدة الاسناد

لا شك أن قاعدة الإسناد باعتبارها قواعد قانونية فإنها لا تختلف من حيث تركيبتها عن القواعد القانونية الأخرى إذ تقوم على ركنين أو عنصرين أساسيين وهما ركن الافتراض وركن الأثر القانوني المترتب على تحقيق هذا الافتراض[7].

وينقسم ركن الافتراض القانوني من أجل تحقيق الأثر المترتب المتمثل في تعيين القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية الدولية المطروحة إلى ضابط الإسناد من جهة والفكرة المسندة من جهة أخرى، كما هو الحال فيما ورد في نص المادة 11 من القانون المدني الجزائري التي نصت على ما يلي "يسري على الشروط الموضوعية الخاصة بصحة الزواج القانون الوطني لكل من الزوجين".

فهذه القاعدة يمكن ردها أو تقسيمها إلى عنصرين، الأول ركن الافتراض الذي تتعلق به القاعدة وبدوره يجزأ إلى عنصرين الأول خاص بالفكرة المسندة المنصبة على الشروط الموضوعية للزواج والثاني هو ضابط الإسناد، قانون كل من الزوجين في هذه القاعدة.

أما الركن الثاني الذي تتكون منه القاعدة هو الأثر المترتب على تحقيق عنصر الافتراض وهو تحديد وتعيين القانون الواجب التطبيق وهو العنصر الذي يميز قاعدة الإسناد عن غيرها من القواعد القانونية وبالنتيجة فهي تقوم على ثلاثة عناصر، الفكرة المسندة، ضابط الإسناد، والقانون الواجب التطبيق.

وبالنظر إلى تعدد العلاقات والمراكز القانونية واختلاف المسائل القانونية المتضمنة عنصر أجنبي فإنه كان من الضروري على التشريعات الدولية العمل على تأصيل وتنظيم هذه المسائل ضمن فئات معينة ثم الاصلاح على تسميتها بالفئات المسندة، أين تضمنت كل فئة مسائل قانونية متشابهة وأخضعت كل فئة إلى قانون معين وفقًا لضابط إسناد خاص[8]، وتقسم هذه الأفكار أساسا كما فعل المشرع الجزائري إلى ما يلي:

1_ الحالة الشخصية:

وهي حقوقا ملتصقة بالشخص القانوني ويقصد بها مجموعة المراكز القانونية التي يتمتع بها الشخص والتي تم إخضاعها إلى قانون جنسيته مع الإشارة إلى إمكانية تعدد وانعدام الجنسية وتظهر حالة الشخص في صورتين:

أ_ الحالة الفردية:

يقصد بها مجموع المسائل القانونية المتعلقة بالشخص في حد ذاته مثل تاريخ ميلاده اسمه ولقبه، جنسيته، أهليته، وكذا موطنه كل هذه المسائل تكون محكومة بقانون الجنسية باستثناء ما خالف منها النظام العام وكذلك المواطن يكون محكومًا بقانون مكان التوطن.

ب_ الحالة العائلية:

يقصد بها المسائل القانونية المتعلقة بالعلاقات الشخصية الرامية إلى إنشاء العلاقة وصحتها وموانع قيامها "شروط إنشاء العلاقة" سواء كانت القانونية  أو الدينية أو الطبيعية والآثار التي تترتب عنها مثل الاحترام المتبادل والنفقة والتوارث بالإضافة إلى كيفية إنهاء العلاقة سواء بالطلاق أو الإبطال أو الخلع أو التطليق أو التفريق الجسماني وعلاقات البنوة والنفقة بين الأقارب وقواعد الحماية والوصاية والقوامة.


2_ الأموال:

أ_ الأموال العقارية: وهي التي تتصل بالأرض ولا يمكن نقلها دون تلف ويأخذ حكمها العقارات بالتخصيص.

ب_ الأموال المنقولة: وهي التي يمكن نقلها دون أي تلف وتأخذ حكمها العقارات بحسب المال.

ج_ الأموال المعنوية: وهي أموال منقولة بحسب طبيعتها ولكنها تتمتع بخاصية متميزة وتشمل حقوق التأليف وبراءات الاختراع والأسماء والعلامات التجارية.

د_ التصرفات القانونية والوقائع المادية: وكلاهما مصدر من مصادر الالتزام.

3_ التصرفات القانونية: تحتوي على جميع صور التصرف المرتب للآثار القانونية كالبيع والإيجار والرهن.

4_ الوقائع المادية: وهي تلك الوقائع التي ترتب المسؤولية المدنية حتى ولو كانت ناشئة عن جريمة.

_ الفكرة المسندة: إن كثرة المسائل القانونية لا حصر لها، مما يجعل من المستحيل وضع لكل منها قاعدة إسناد خاصة بها، لذلك فإن المشرع قد عمد إلى وضع فئات معينة تسمى بالفئات المسندة، وكل فئة منها تتضمن المسائل القانونية المتشابهة، ثم تربط كل فئة بقانون معين عن طريق ضابط خاص هو ضابط الإسناد[9].

مثال ذلك الفكرة المسندة الواردة في نص المادة 17 من القانون المدني الجزائري والتي تتضمن كل الحالات القانونية المتعلقة بكسب الملكية والحيازة والحقوق العينية، والتي تشكل فكرة مسندة واحدة هي مركز الأموال، لكن قد تتضمن الفكرة المسندة أكثر من موضوع، ومثال ذلك الفكرة المسندة الواردة في نص المادة 10 من القانون المدني الجزائري، حيث تضمنت إلى جانب مسألة حالة الأشخاص أهليتهم، بمعنى الحالة موضوع والأهلية موضوع آخر، واعتبار الفكرة المسندة فكرة قانونية فهي تخضع إلى رقابة المحكمة العليا في تحديد مضمونها.

_ ضابط الإسناد: يتم تصنيف المسائل القانونية المشتملة على عنصر أجنبي إلى فئات مسندة بإسناد كل فئة منها إلى قانون معين عن طريق رابطة تدعى بضابط الإسناد.

وهو المعيار المختار من طرف المشرع لكي يرشد القاضي المعروض عليه النزاع في العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي إلى القانون المختص أو هو النقطة التي تنير الطريق أمام القاضي لمعرفة القانون الواجب التطبيق على العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي التي تتنازع بشأنها القوانين.

وتنقسم هذه الرابطة إلى روابط قانونية كالجنسية والمواطن، وروابط واقعية كمحل الإبرام وموقع العقار.

_ اختيار ضابط الإسناد: إذا كان المشرع يختار ضابط الإسناد من عناصر العلاقة فإن ذلك لا يكون اعتباطيًّا، بل يقوم بدراسة وفحص جميع عناصرها، ومدى أهمية كل منها، ثم يوازن في ما بينها وعلى ضوء ذلك يأخذ العنصر الذي له ثقل كبير في العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي، وينتقي منه ضابط الإسناد الذي يكون مرشدًا لتطبيق القانون المختص.

_ القانون المسند إليه: وهو القانون الذي تشير إليه قاعدة الإسناد الوطنية بأنه هو الواجب التطبيق على العلاقة ذات العنصر الأجنبي، التي هي محل النزاع بين قانونين أو أكثر فهذا القانون الذي أرشدتنا إليه قاعدة الإسناد بواسطة ضابط الإسناد المختار من طرف المشرع هو القانون المعبر عنه بالقانون المسند إليه، ويشترط في القانون المسند إليه أن يكون تابع لدولة مكتملة العناصر التي يحددها القانون الدولي العام، من شعب وإقليم وسلطة وسيادة، ومعترف بها دوليا لا سيما من طرف دولة القاضي وبالتالي تخرج كل العادات والتقاليد التي تحكم مجموعة متنقلة أو التي يعمل بها في القبائل المتفرقة.

والقانون المسند إليه ليس دائمًا قانونًا أجنبيًّا، فقد تشير قاعدة الإسناد أن القانون الوطني هو المختص، المادة 13 من القانون المدني الجزائري التي تنص على العلاقة الزوجية التي يكون أحد أطرافها جزائريًّا.

فإذا كان القانون المسند إليه هو القانون الأجنبي فلا بد من تحديد نطاقه، لأن كل الدول قوانينها تتضمن قواعد موضوعية "تحل مشاكل رعايا الدولة"، وقواعد تنازع تحل المشاكل ذات العنصر الأجنبي، كما أن اختيار ضابط الإسناد في كل دولة يكون على أساس خلفية سياسية وتاريخية، فالدول المصدرة للسكان تأخذ بالجنسية كضابط إسناد لها، أما الدول المستقبلة للسكان فتأخذ بالموطن كضابط إسناد.

_ اعتماد تعدد ضوابط الإسناد في العلاقة القانونية الواحدة:

الأصل العام هو أن يضع المشرع ضابط إسناد واحد في العلاقة ذات العنصر الأجنبي مثل المادة 20 من القانون المدني الجزائري التي تجعل الفعل النافع أو الضار يخضع إلى قانون مكان ارتكابه، إلا أنه يمكن أن يكون هناك أكثر من ضابط إسناد في علاقة واحدة ذات عنصر أجنبي وفي هذه الحالة نميز بين 03 أنواع لضوابط الإسناد:

1_ ضوابط الإسناد المزدوجة "الضابط التوزيعي": مثل ما نصت عليه المادة 11 من القانون المدني الجزائري "تسري على الشروط الموضوعية الخاصة بصحة الزواج القانون الوطني لكل من الزوجين"، أي أن تتوافر الشروط الموضوعية للزواج في الزوج بالنظر إلى قانونه، وفي الزوجة بالنظر إلى قانونها، بمعنى توزيع الضابط على أطراف العلاقة ككل، وهنا الضابط هو الجنسية يوزع عليهما كل حسب قانونه.

2_ الضوابط الترتيبية: وتكون حسب الترتيب، فإن لم يوجد الضابط الأول، ننتقل إلى الثاني وهكذا، مثل ما نصت عليه المادة 18  من القانون المدني الجزائري، حول الالتزامات التعاقدية، التي خصها المشرع بعدة ضوابط فإن لم نجد ضابط قانون الإدارة نذهب إلى ضابط قانون الموطن المشترك وإن لم يوجد نذهب إلى ضابط قانون محل الإبرام.

3_ ضوابط الإسناد ذات التطبيق الجوازي "الاختيارية": مثل ما نصت عليه المادة 19 من القانون المدني الجزائري، والتي أعطت الاختيار للمتعاقدين بين قانون المحل وقانون الموطن المشترك بالنسبة إلى شكل العقود، وذلك بهدف إعطاء فرصة للأطراف لاختيار القانون الأنسب الذي يحكم العلاقة بينهما.

4_ تثبيت ضوابط الإسناد: عندما يضع المشرع ضابط الإسناد عليه أن يثبته في لحظة زمنية معينة لتفادي النزاع المتحرك والمقصود به هو ضوابط الإسناد المتغيرة مثل الجنسية، مكان وجود المنقول، الموطن.


المبحث الثاني:

تفسير قاعدة الإسناد

عرفنا أن قاعدة الإسناد هي القاعدة التي ترمي إلى تبيان حكم القانون الواجب التطبيق على منازعة قانونية تتضمن عنصر أجنبي، وأن هذه الأخيرة تقوم على ثلاثة عناصر الفكرة المسندة، ضابط الإسناد والقانون الواجب التطبيق.

والقاضي عند تطبيق قاعدة الإسناد على المنازعة المنظور فيها أمامه وقبل الوصول إلى إعطاء حكمه تعترضه عدة إشكالات أو مسائل أولية تتعلق بتفسير قاعدة الإسناد[10]، أولى هذه المسائل يتعلق بتكييف أو تحديد الأوصاف القانونية أي تحديد مضمون الفكرة المسندة تمهيدًا لإدراجها في نطاق أو خانة معينة خصها المشرع بقاعدة إسناد معينة وثاني هذه المسائل يتعلق بتحديد  نطاق ومضمون القانون الواجب التطبيق المسند إليه حل النزاع، ذلك أن أي قانون يحتوي على قواعد إسناد وقواعد موضوعية.

ولتفسير المقصود بالقانون الواجب التطبيق فإن التساؤل المطروح هل يقصد به القواعد الموضوعية فقط، وبالنتيجة لا ينظر القاضي في قواعد الإسناد؟ أم أنه ملزم بالرجوع إلى قواعد الإسناد أولا في القانون الأجنبي المختص ليتحقق ما إذا كان هذا القانون يعقد الاختصاص التشريعي لقواعده الموضوعية أم يجبل إلى قانون آخر؟ والإشكال هنا يتعلق بما اصطلح الفقه على تسميته بالإحالة.

والإشكال الثالث الذي يصادف القاضي عند تفسير قاعدة الإسناد يثور بمناسبة تحديد العنصر الثاني من عناصر قاعدة الإسناد وهو ضابط الإسناد والأمر يتعلق بمشكلة التنازع المتحرك فمثلاً المشرع الجزائري أخضع مسائل الأحوال الشخصية إلى قانون الجنسية في حين أخضعها المشرع الإنجليزي إلى قانون المواطن.

ومن ثم فإذا غير الشخص جنسيته أو موطنه فما هو الأثر المترتب عن ذلك بالنسبة له فيما يتعلق أحواله الشخصية القائمة وعلى أثارها الماضية والمستقبلية؟.

الأمر الذي يستدعي الوقوف على هذه المسائل في ثلاثة مطالب نعرض في الأول فكرة التكييف وفي الثاني مسألة الإحالة وفي المطلب الأخير التنازع المتحرك كما يلي:

المطلب الأول:

 التكييف

 

الفرع الأول:

المقصود بالتكييف.

إن تحديد الوصف القانوني الملائم للوقائع محل المنازعة مسألة ضرورية قبل إسنادها للقانون الواجب التطبيق على النزاع سواء في القانون الداخلي أو الدولي.

فالقاضي الجزائي مثلا في الوقائع المشكلة لاختلاس أموال الغير وقبل إصدار حكمه ينظر ويحدد أولا ما إذا كان سلب مال الغير هو من قبيل السرقة أو النصب أو خيانة الأمانة، والأمر كذلك بالنسبة للقاضي المدني فهو أيضًا يفصل أولا فيما إذا كان اتفاق الأطراف موضوعه عقد أم لا ثم ما إذا كان هذا العقد وعد بالبيع أو بيعًا موقوف على شرط واقف أو فاسخ، وهكذا يجب تحديد الطبيعة القانونية لمحل النزاع قبل تطبيق القانون عليه[11].

هذا ويمارس القاضي هذه المهمة بتكييف الوقائع ضمن تفسير أحكام القانون، ومن ثم يمكن القول بأن التكييف هو عملية أولية معروفة في القانون الداخلي والقانون الدولي.

هذا ويختلف هدف التكييف في القانون الدولي عن الهدف منه في القانون الداخلي إذ يؤدي التكييف إلى تحديد النص القانوني الموضوعي الواجب التطبيق في القانون الداخلي بينما في القانون الدولي الخاص يؤدي إلى التكييف إلى وضع المسألة محل النزاع ضمن طائفة من طوائف النظم القانونية المقررة في قانون القاضي تمهيدًا لإسنادها إلى القانون المختص.

والتكييف هو "تحليل المسألة القانونية المطروحة أمام القاضي لتبيان طبيعتها وخصائصها من أجل إعطائها الوصف القانوني الملائم، لإدراجها في طائفة من الطوائف القانونية التي خصها المشرع بقاعدة إسناد تمهيدًا لتطبيق قانون معين عليها"[12].

هذا وقد عرف التكييف منذ القديم، في القانون الكنسي، والقانون الفرنسي القديم والحديث، غير أن تأصيل الفكرة كان على يد الفقهيين الألماني "فرانتس كاهن" سنة 1891.

ومن بعده سنة 1897 على يد الفقيه الفرنسي "بارتان شيدا" نظرية واضحة المعالم ومتكاملة البنيان[13].

والتكييف عملية معقدة ودقيقة وهي لازمة حتى في معالجة النصوص القانونية الوطنية وهو ما لم يختلف عليه اثنان، غير أن الجدل ثار بشأن القانون الذي تتم على ضوئه عملية التكييف فهل يخضع لقانون القاضي؟ أم أن المنازعة الدولية تخرج به إلى حيز قوانين أخرى؟ الأمر الذي يستدعي تمحيص رأي الفقه في المسألة[14].

 

أولا_ إخضاع التكييف لقانون القاضي:

أصل هذه النظرية الفقيه الفرنسي "Bartin" والذي يرى أن عملية التكييف يجب أن تكون وفقًا لقانون القاضي الناظر في النزاع، ويبرز "بارتان" موقفه من خلال مجموعة من الحجج هي:

1_ فكرة السيادة: فـ "بارتان" يرى أن تنازع القوانين من حيث الأساس هو تنازع بين السيادات فالمشرع إن سمح في حالات بتطبيق قانون أجنبي على إقليم دولته، فإن ذلك في حقيقة الأمر يعد تنازل عن قدر من سيادة دولته، وعليه فمن الطبيعي أن يكون هذا التنازل ونطاقه وفقًا للقانون الوطني، أي قانون القاضي الناظر في النزاع.

1_ أن التكييف يهدف إلى تفسير قاعدة الإسناد والتي هي في الأصل قاعدة قانونية وطنية، وبالنتيجة وطالما كانت قاعدة الإسناد بالوصف السابق تخضع إلى قانون القاضي الوطني فإنه من الطبيعي والمنطقي إخضاع تكييف قاعدة الإسناد إلى القانون الوطني.

2_ طالما أن التكييف عملية سابقة لأعمال قاعدة الإسناد من حيث التعاقب الزمني أي أنه يسبق إيجاد وتحديد القانون الواجب التطبيق، ومن ثم فإن مرحلة التكييف سابقة الإسناد ومن ثم تخضع لقانون القاضي ولا مجال للحديث أن يكون التكييف وفقًا للقانون المسند إليه فض النزاع طالما أنه لم يتحدد بعد.

3_ أن القاضي عندما يقوم بتكييف العلاقات أو النزاعات أو المراكز المطروحة أمامه فإنه وبالضرورة سوف يتأثر بتكوينه الثقافي والقانوني وبالمبادئ الواردة في قانونه، فهو ليس قاضي دولي بل هو قاضي وطني يتأثر في تكوينه وعلمه بمفاهيم وأحكام قانونه الوطني ومن ثم فإن إخضاع عملية التكييف لقانونه أمر منطقي.

هذا غير أن هذه النظرية ورد عليها استثنائيين من حيث إخضاع التكييف لقانون القاضي، الأول يتعلق بالتفرقة بين التكييف الأولي أو السابق والتكييف الثانوي أو اللاحق والاستثناء الثاني يتعلق بوصف المال[15].

_ التفرقة بين التكييف الأولي والثانوي:

التكييف الأولي هو التكييف الذي نحن بصدد دراسته وهو الذي يكون قبل الإسناد وإيجاد القانون الواجب التطبيق، وهذا النوع من التكييف يكون على ضوء قانون القاضي أما التكييف الثانوي فهو الذي يكون بعد مرحلة الإسناد وإيجاد القانون المطبق، وهذا النوع من التكييف يكون على ضوء القانون الأجنبي المختص.

2_ تحديد وصف المال:

تحديد وصف المال كونه منقولا أو عقارًا لا يخضع إلى قانون القاضي بل إلى قانون موقع ذلك المال، وتبريره لذلك ضمان استقرار المعاملات وسلامتها، وتظهر أهمية التفرقة بين العقار والمنقول في القانون الفرنسي في مسألة الميراث، إذ يفرق هذا القانون بين الميراث في العقار حيث يخضعه لقانون موقعه وبين الميراث في المنقول وهذا يخضع لقانون آخر موطن للمتوفي.

ثانيا: إخضاع التكييف للقانون الأجنبي المختص

يرى بعض الفقهاء أن التكييف يجب أن يكون على ضوء القانون الأجنبي الذي قد يحكم النزاع، ويبرر مثل هذا الموقف بالقول أنه عندما تعطي قاعدة الإسناد الإختصاص لقانون أجنبي فإنه يجب تطبيق هذا القانون بشكل كامل، بحيث يشمل ذلك حتى التكييف أو الوصف القانوني الذي يعطى للعلاقة محل النزاع.

غير أن هذه النظرية قوبلت بمعارضة شديدة إذ قيل عنها أنها تؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة وعبارة عن مصادرة على المطلوب، فالتكييف يسبق عملية الإسناد وإيجاد القانون الواجب التطبيق، في حين أن هذه النظرية تفترض أن القانون الأجنبي هو واجب التطبيق، وهذا غير صحيح فهذا القانون في الحقيقة هو محتمل التطبيق فتطبيقه يتوقف في الأصل على التكييف الذي يعطيه القاضي للنزاع، وبالتالي فكيف يمكن القول بإخضاع هذا التكييف لقانون أجنبي وهو قانون لم يتحدد بعد اختصاصه؟.

ثالثا: إخضاع التكييف للقانون المقارن.

يرى أنصار هذه النظرية أن القاضي عند إجراء عملية التكييف لا يستند على قانون واحد فقط، بل عليه أن يقوم بدراسة مقارنة لمختلف الأنظمة القانونية ليستخلص منها النظام القانوني الأنسب والذي على ضوئه يقوم بعملية التكييف.

غير أن هذه النظرية تم انتقادها لسببين أساسيين: فمن جهة هي صعبة التطبيق من الناحية العملية، إذ يستحيل على القاضي أن يلم بجميع القوانين الموجودة في جميع الدول ويجري مقارنة بينها، ومن جهة أخرى فإنه حتى لو سلمنا بإمكانية قيام القاضي بالمقارنة بين الأنظمة القانونية لاستخلاص القانون الأنسب فإن هذا القاضي وبحكم تكوينه سينتهي في النهاية إلى إخضاع التكييف لقانونه الوطني بحجة أنه الأنسب.

 

الفرع الثاني:

موقف القضاء والتشريع من مسألة القانون الذي يخضع له التكييف.

كان القضاء الفرنسي يكيف دائمًا النزاعات المعروضة أمامه وفق مبادئ القانون الفرنسي متأثرًا في ذلك بنظرية "Bartin" غير أنه لم يشر إلى ذلك صراحة حتى في قضاياه الشهيرة كقضية "حصة الزوج المحتاج" والمعروفة أيضًا بـ "ميراث المالطي" وقضية "وصية الهولندي"، وكان يجب انتظار سنة 1955 لتعلن محكمة النقض صراحة في حيثيات قرار أصدرته أن "تحديد وتكييف ما إذا كانت الطقوس الدينية في الزواج تدخل ضمن الشروط الموضوعية أو الشكلية للزواج يجب أن تكون وفق المفاهيم والمبادئ السائدة في القانون الفرنسي".

أما في القانون الجزائري فيظهر جليا في المادة 09 من القانون المدني أن المشرع قد تأثر هو أيضًا بنظرية "Bartin"، وهو تأثر جاء كاملاً حيث شمل حتى الاستثناء على هذه القاعدة مقررة إخضاع تكييف المال كونه عقارًا أو منقولاً إلى قانون القاضي وإنما لقانون الدولة التي يوجد فيها، وتظهر أهمية التفرقة بين المنقول والعقار في القانون الجزائري في مجال العقود حيث تخضع كأصل عام لقانون الإرادة بينما تخضع العقارات لقانون موقعها.

المطلب الثاني:

الإحالة.

سوف نتناول في هذا المطلب مفهوم وأنواع الإحالة وتأصيل نظرية الإحالة ونطاق الأخذ بها ورأي الفقه في ذلك وموقف المشرع الجزائري في ذلك في أربعة فروع:

 

الفرع الأول:

مفهوم وأنواع الإحالة:

يقصد بالإحالة تلك الفكرة التي تقضي بتطبيق قواعد الإسناد في القانون الأجنبي المختص بحكم العلاقة بمقتضى قواعد الإسناد الوطنية متى اختلفت مع هذه الأخيرة وكان التنازع بينهما سلبيًا.

فالدولة تنفرد وبمطلق الحرية بوضع قواعد إسناد لتنظيم مسألة تنازع القوانين ولها أيضًا مطلق الحرية في اعتماد أي ضابط إسناد تراه ملائمًا لحكم العلاقة، فمثلاً في مجال الأحوال الشخصية هناك دول تسندها إلى قانون الجنسية، دول أخرى تسندها إلى قانون الموطن، وهذا الاختلاف يؤدي إلى نشوء نوعين من التنازع، تنازع إيجابي وتنازع سلبي.

_ النوع الأول الإيجابي: فيكون عندما يقبل كل من القانون الوطني والقانون الأجنبي حكم العلاقة موضوع النزاع، ومثال ذلك: جزائري متوطن بإنجلترا قام بتصرف متعلق بأهليته، هنا كل من القانون الجزائري والانجليزي سيكون مختصًا، إذ لو رفع نزاع أمام القضاء الجزائري فإن القانون الجزائري سيختص طبقًا للمادة 10 من القانون المدني التي تقضي بإخضاع الأشخاص في مجال الحالة والأهلية لقانون جنسيتهم، كما سيكون القانون الإنجليزي أيضًا مختصا لو رفع النزاع أمام القضاء الإنجليزي كون أن قاعدة الإسناد هناك تقضي في مجال الحالة والأهلية بتطبيق قانون الموطن "أي الإنجليزي" على اعتبار أن الجزائري موطنه في إنجلترا وهذا هو التنازع الإيجابي.

_ النوع الثاني السلبي: أما التنازع السلبي فيكون في الحالة التي رفض فيها كلا القانونين حكم العلاقة محل النزاع فمثلاً: انجليزي متوطن بالجزائر رفع دعوى تتعلق بالحالة والأهلية أمام القضاء الجزائري هنا تطبيقًا للمادة 10 من القانون المدني فالقاضي سيطبق القانون الإنجليزي باعتباره قانون جنسيته، غير أنه عندما يرجع للقانون الجزائري يجد أن قاعدة الإسناد تقضي بتطبيق قانون الموطن، وبما أن الانجليزي متوطن بالجزائر فإن القانون الذي يكون واجب التطبيق هنا هو القانون الجزائري، وهذا ما يسمى عند فقهاء القانون الدولي الخاص بالإحالة، والتي تكون في حالة التنازع السلبي، ومنه يمكن القول أن الإحالة تتحقق عندما يرجع القاضي الوطني لقواعد الإسناد المنصوص عليها في القانون الأجنبي الواجب التطبيق.

هذا وترجع جذور الإحالة إلى قرارين شهيرين أصدرتهما محكمة النقض الفرنسية في 24 جويلية 1878 و22 فبراير 1888 في نفس القضية والتي تعرف بقضية "Forgo"[16].


هذا والإحالة نوعان[17]، هناك إحالة من الدرجة الأولى وإحالة من الدرجة الثانية. فالإحالة من الدرجة الأولى فتكون عندما تشير قاعدة الإسناد الوطنية إلى تطبيق قانون أجنبي فتحيل قاعدة الإسناد في هذا القانون الأجنبي من جديد إلى قانون القاضي وهذا يعني أن العلاقة يتنازعها قانونان فقط، يحيل كل منهما على الآخر.

أما الإحالة من الدرجة الثانية فتكون عندما تشير قاعدة الإسناد الوطنية إلى تطبيق قانون أجنبي فتحيل قاعدة الإسناد في هذا القانون لا إلى قانون القاضي بل إلى قانون آخر فمثلاً انجليزي متوطن بالمغرب رفع دعوى تتعلق بأهليته أمام القضاء الجزائري، فالقاضي الجزائري سيطبق القانون الانجليزي كونه رافع الدعوى إنجليزي الجنسية، غير أنه عندما يرجع إلى قواعد الإسناد الإنجليزية يجدها تحيل إلى القانون المغربي باعتباره قانون موطن ذلك الانجليزي.

 

الفرع الثاني:

تأصيل نظرية الإحالة [18].

ظهرت عدة نظريات تحاول البحث في أساس سليم لتأصيل نظرية الإحالة، فالبعض قال بنظرية التفويض، والمقصود بذلك أن قاعدة الإسناد الوطنية عندما تشير إلى تطبيق قانون أجنبي فهي تفوض الاختصاص لهذا القانون بأكمله سواء أحكامها الموضوعية أو تلك الخاصة بقواعد الإسناد، البعض الآخر قال بفكرة قاعدة الإسناد ألاحتياطية وتقوم هذه الفكرة على افتراض وجود قاعدة إسناد احتياطية تقضي بأنه متى أعطي الاختصاص لقانون أجنبي ورفض هذا الأخير حكم العلاقة موضوع النزاع، كان القاضي ملزم بتطبيق قانونه الوطني.

غير أن هذه النظرية تم انتقادها لسببين فهي من جهة تقوم على الافتراض فقط ولا تستند لأي نص قانوني ومن جهة أخرى، هي تبرر الإحالة من الدرجة الأولى وتبقى عاجزة عن تأصيل الإحالة من الدرجة الثانية. جانب آخر من الفقه أستند إلى فكرة النظام العام كأساس للإحالة، حيث قالوا: أنه متى أعطت قاعدة الإسناد الوطنية الاختصاص لقانون أجنبي ورفض هذا الأخير اختصاصه وأحال إلى قانون وطني، كان على القاضي قبول هذه الإحالة وتطبيق قانونه لأنه إن لم يفعل ذلك بقيت تلك العلاقة بدون قانون يحكمها وهو أمر يتعارض مع النظام العام.

الحقيقة أنه ولفهم الأساس الذي تقوم عليه نظرية الإحالة وجب الرجوع إلى أصلها التاريخي، فالقضاء الفرنسي لم يأخذ بها في قضية "Forgo"، إلا لاعتبارين أساسيين الأول هو المصلحة الوطنية إذا كان من مصلحة الدولة الفرنسية أن تحصل على الأموال التي تركتها، أما الاعتبار الثاني فهو تسهيل عمل القضاة وإتاحة الفرصة لهم لتطبيق قوانينهم الوطنية، فقبول الإحالة وبالضبط تلك التي تكون من الدرجة الأولى يعني تطبيق القانون الوطني. وهو قانون يفترض علم القاضي به بخلاف القانون الأجنبي الذي قد يجهله تمامًا هذا القاضي مما يعني صعوبة البحث عن مضمونه ولا يخفى على أحد صعوبة ذلك بل استحالته في بعض الأحيان، وهي كلها أمور يمكن تجاوزها عن طريق قبول الإحالة.

 

الفرع الثالث:

 نطاق الأخذ بالإحالة.

إذا كان القضاء الفرنسي قد جرى على الأخذ بالإحالة وسايره في ذلك الكثير من القوانين في العديد من المجالات، فإنه من المتفق عليه استبعاد الإحالة في حالتين: الأولى تخص المسائل الخاصة بقانون الإرادة، والثانية تخص شكل التصرفات القانونية.

أولا: استبعاد الإحالة في المسائل التي تخضع لقانون الإرادة.

المبدأ المقرر في الكثير من القوانين هو اخضاع العقود لقانون الإرادة أي ذلك الذي اتفق الأفراد على تطبيقه، وعلى القضاة احترام هذه الإرادة وهو ما قد لا يتحقق لم تم الأخذ بالإحالة، فلو اتفق شخصان على أن يخضع تعاملهما قانونًا للقانون الجزائري ثم ثار نزاع بينهما أمام القضاء الفرنسي وجب على هذا الأخير تطبيق أحكام القانون الجزائري حتى ولو أحالت قواعد الإسناد في هذا القانون لقانون آخر، إذ يجب هنا استبعاد الإحالة وتطبيق القانون الجزائري احترامًا لإرادة الأطراف، وقد أخذت بعض المعاهدات الدولية بهذا الحل، فمعاهدة "لاهاي" 1955 الخاصة بالبيوع الدولية المتعلقة بالمنقولات المادية، نصت صراحة في مادتها 2 على استبعاد الإحالة، وكذلك فعلت معاهدة "روما" لسنة 1980 والمتعلقة بالقانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية حيث نصت المادة 5 منها على استبعاد الإحالة.

ثانيًا: وجوب استبعاد الإحالة في مجال شكل التصرفات.

القاعدة المقررة في الكثير من القوانين هي اخضاع شكل التصرفات القانونية لقانون مكان الإبرام، وعليه فإذا أبرم شخصان عقدًا في الجزائر اتبعا الإجراءات الشكلية المنصوص عليها في القانون الجزائري كان عقدهما صحيحًا وكان بإمكان الاحتجاج به أيا كان، ولنفرض أنه رفعت دعوى بشأن هذا العقد أمام القضاء الفرنسي، فالقاضي هنا ملزم بالرجوع لأحكام القانون الجزائري ليتأكد من مدى احترام الأطراف للأحكام الواردة في هذا القانون وعليه أن يمتنع عن الأخذ بالإحالة لسبب بسيط وهو أن القانون الجزائري الذي أبرم العقد تحت سلطانه وكان هذا العقد صحيحًا من الناحية الشكلية قد يحيل إلى قانون آخر يعتبر ذلك العقد باطلاً، أي أنه من شأن الأخذ بالإحالة أن يؤدي إلى بطلان التصرف، وهذا يتنافى مع "مبدأ احترام الحقوق المكتسبة".


الفرع الرابع:

الإحالة بين التأييد والرفض وموقف المشرع الجزائري.

إن القضاء الفرنسي وإن كان قد اعتمد الإحالة فإن ذلك لا يعني أن موقفه هذا يلقى التأييد التام من قبل الفقه، وهذا يعني أيضًا أنه ما تزال لحد الساعة الاختلافات قائمة بين الفقهاء حول قبول الإحالة أو رفضها، وكان لذلك تأثيره على قوانين الدول بين آخذ بالإحالة ورافض لها.

أولا: الاتجاه المؤيد للأخذ بالإحالة.

يستند أنصار هذا الاتجاه على عدة حجج:

_ إن الأخذ بالإحالة وبالضبط من الدرجة الأولى فيه تسهيل لمهمة القاضي إذ سيقوم بتطبيق قانونه الوطني، وهو قانون يعلمه جيدًا بخلاف القانون الأجنبي الذي قد يجهله أو يسيء تفسيره فيطبقه بشكل خاطئ.

_ إن القاضي الوطني عندما يرجع إلى قانون أجنبي فعليه أن يطبق أحكام هذا القانون برمته ولا يقصر على تطبيق القواعد الموضوعية دون قواعد الاسناد، وإلا قام بتجزئة هذا القانون دون مبرر.

_ إن رفض الإحالة وتطبيق قانون أجنبي يعني أن القاضي الوطني يطبق قانونًا هو أصلاً يرفض اختصاصه ويأبى أن يطبق على النزاع.

ثانيًا: الاتجاه الرافض للأخذ بالإحالة.

يستند هذا الاتجاه على الحجج التالية:

_ من شأن الأخذ بالإحالة خاصة من الدرجة الثانية أن يؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة.

_ في الأخذ بالإحالة مساس بسيادة الدولة وذلك في الحالة التي تكون فيها قواعد الإسناد منصوصًا عليها في الدستور.

_ في الأخذ بالإحالة مساس بتوقعات الأفراد خاصة في مجال الأحوال الشخصية، إذ قد تطبق عليهم قوانين لا تتماشى مع ديانتهم أو نظامهم القانوني، مما يؤدي إلى الإجحاف بحقوقهم.

ثالثًا: موقف المشرع الجزائري من الإحالة[19].

لم تكن الإحالة محل تنظيم تشريعي ولم تتح للقضاء الجزائري فرصة التعرض لهذه المسألة، وكان الرأي لدى الكثير من الشراح في الجزائر هو وجوب استبعاد الإحالة، على الأقل في مجال الأحوال الشخصية على اعتبار أن قانون الأسرة الجزائري يجد الكثير من أحكام الشريعة على غير المسلمين، وفي ذلك مساس بمعتقداتهم وخضوع لأحكام غريبة تمامًا عنهم، لكن يبدو أن جميع هذه الاعتبارات لم تأخذ بعين الاعتبار من قبل المشرع الجزائري أثناء تعديله للقانون المدني سنة 2005، حيث قرر صراحة في المادة 23 مكرر 1 فقرة 2 تطبيق القانون الجزائري متى أحالت إليه قواعد التنازع الأجنبية، وهذا يعني القبول بالإحالة من الدرجة الأولى، كما يفهم أيضًا من عبارات الفقرة 1 من نفس المادة "23 مكرر 1" أنه يتم استبعاد الإحالة من الدرجة الثانية.

 

المطلب الثالث:

التنازع المتحرك.

إن التنازع المتحرك يعتبر إشكال آخر يلاقيه القاضي الوطني عند تفسير قاعدة الإسناد الوطنية وهو يتعلق بتحديد ضوابط الإسناد القابلة للتغيير كما هو الحال بضابط الجنسية والمواطن وموقع المنقول.

فإذا غير شخص جنسيته وموطنه أو نقل مال المنقول من دولة إلى أخرى فما هو أثر هذا التغيير أو النقل على القانون الواجب التطبيق؟ هل تبقى مثل هذه العلاقات خاضعة للقانون الذي نشأت في ظله؟ أم أنها سوف تخضع للقانون الجديد التي أصبحت تحت سلطانه؟.

إن التنازع المتحرك أو المتغير يتحقق إذن بتغير ظرف الإسناد نتيجة انتقال شخص أو شيء معين من نطاق تطبيق قانون دولة معينة إلى نطاق تطبيق قانون دولة أخرى بمقتضى نفس قاعدة الإسناد.

وبمفهوم آخر فالتنازع المتحرك ينشأ بين قانونين متعاقبين لحكم موضع واحد وهنا يتحقق عنصر الزمان، كما أنه ينشأ من الحديث عن التنازع المتحرك وفقًا لما سبق تبيانه يستدعي الوقوف على مسألتين اثنين، الأولى تتعلق بمجال التنازع المتحرك والثانية تتعلق بكيفية حل التنازع بين قانونين صادرين عن مشرعين مختلفين مما يستلزم تغليب عنصر الزمان المتحرك.

الفرع الأول:

مجال التنازع المتحرك.

أن ما يجب معرفته أن ضوابط الإسناد من حيث الزمان تنقسم إلى قسمين هما:

1_ ضوابط اسناد وقتية: وهي الضوابط التي تستغرق فترة زمنية محدودة مثل ضابط محل انعقاد العقد وضابط محل وقوع الفعل الضار أو النافع وضابط إرادة المتعاقدين.

فهذه الضوابط تتميز بكونها ثابتة غير قابلة لتغير أو الانتقال ولا يترتب على إعمالها تعاقب قانون أو أكثر لحكم نفس الموضوع.

2_ ضوابط إسناد مستمرة: وهي التي يستغرق تحققها فترة زمنية غير محدودة في الزمان وتنقسم إلى نوعين:

أ_ ضوابط ثابتة: أي لا يمكن نقلها من دولة إلى أخرى، كما هو الحال في ضابط موقع العقار، فالعقار لا يتصور أن يخضع لقانونين متعاقبين لدولتين مختلفتين، وإلا كنا بصدد تنازع ناشئ عن ضم إقليم دولة إلى دولة أخرى.

ب_ ضوابط قابلة لتغير: والأمر هنا يتعلق بضابط الجنسية والموطن وموقع المنقول، فالشخص قد يغير جنسيته في أي وقت يشاء أو موطنه وقد ينقل ماله المنقول من إقليم دولته إلى دولة أخرى فيترتب عن ذلك تعاقب قانونين لحكم موضوع واحد.

هذا، وينبغي ألا تكون ضوابط الإسناد التي تصلح لقيام التنازع المتحرك مركزة من الوجهة الزمنية بمقتضى بعض الاعتبارات الفنية، بحيث يتحدد وقت الاعتداد بالقانون المختص مقدما على أساس بعض الاعتبارات الفنية، ومن ذلك مثلا القاعدة التي تخضع الميراث لقانون جنسية المورث[20].

فهذا الأخير يتحدد بوقت الوفاة بداهة، كونه هو الوقت الذي تصدق فيه على الشخص صفة المورث، فإن سبق للمورث تغيير جنسيته قبل الوفاة فلا يتصور أن يوجد تنازع بين قانون جنسيته القديم وقانون جنسيته وقت الوفاة فيما يتعلق الميراث.

والأمر بذاته فيما يتعلق بضابط الإسناد الذي يقضي بخضوع أهلية التعاقد إلى قانون جنسية الشخص، فليس هناك شك أنها تحدد بوقت التعاقد، ذلك أن الأهلية من شروط صحة العقد، وصحة العقد تقدر من الوجهة الفنية بالنظر إلى وقت التعاقد.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي الحلول المعتمدة بشأن مشكلة التنازع المتحرك؟ وما هو موقف المشرع الجزائري منها؟.

 

 

 


الفرع الثاني:

الحلول الخاصة بمشكلة التنازع المتحرك.

للوصول إلى تحديد القانون الواجب التطبيق في حالات التنازع المتحرك، فقد تعددت الحلول، ما بين الحلول التشريعية والحلول الفقهية.

1_ الحلول الفقهية:

لعب الفقه دورًا بارزًا في معالجة مشكلة التنازع المتحرك، للوصول إلى أفضل قانون يجب تطبيقه على المنازعة الدولية، ونتج عن ذلك مذهبين رئيسيين، الأول ينادي باحترام الحقوق والمراكز القانونية القديمة، أو التي تم تكوينها في ضل القانون القديم، والثاني يعتمد على الأثر الفوري للقانون الجديد، وعدم رجعيته، ودعا البعض لتطبيق فكرة الحل الوظيفي على التنازع المتحرك.

أ_ النظرية التي تنادي باحترام الحقوق والمراكز القانونية القديمة أو التي تم تكوينها[21].

إن هذه النظرية تقوم في أساسها على تطبيق القانون القديم، الذي نشأت وتكونت في ظله المراكز القانونية، والاستبعاد المطلق للقانون الجديد، ليس فقط بالنسبة للآثار التي نشأت في ظل القانون السابق، وإنما أيضًا بالنسبة للآثار التي تنشأ مستقبلاً في ظله.

إن أنصار هذا الاتجاه، يبررون فكرهم على أسس مختلفة، فهناك من يرى أن أساس ذلك هو الاحترام الدولي للحقوق المكتسبة، بينما يبرره آخرون بالاعتماد على فكرة استقرار النظم القانونية.

إن الاتجاه الأول يعتمده الفقيه الفرنسي "بييه" ويؤيده في هذا "دايسي" في إنجلترا و"بيل" في أمريكا، وطبقًا له متى اكتسب حق اكتسابًا قانونيًّا صحيحًا طبقًا لقانون بلد، وجب أن يحترم في كل البلاد، ولو انتقل إلى بلد لا يعترف قانونه بهذا الحق، على أساس أنه يجب التفرقة بين نشوء  الحق ونفاده، لأنه كثيرًا ما يكون إنشاء الحق في بلد ما مستحيلاً ولكن نفاده فيه جائز.

ويستند هذا الرأي إلى مبادئ القانون الدولي العام، التي تفرض على الدولة أن تحترم سيادة الدول الأخرى، والتي من مظاهرها، احترام الحقوق المكتسبة الناشئة في سلطان هذه السيادة.

إن موضع الخلل في هذه النظرية، هو أن "بييه" يوجب لاحترام الحق المكتسب، أن ينشأ صحيحًا وفقًا لأحكام القانون المختص، الذي تشير إليه قاعدة الإسناد في القانون القاضي، أي أن يتكون الحق، وفقًا لقواعد الإسناد في البلد الذي ينشأ فيه، وفي البلد الذي يراد التمسك فيه بنفاده، مثال ذلك أن يطلق إسباني متوطن في إنجلترا زوجته، وفقًا للقانون الانجليزي أي قانون الموطن، ويطالب بنفاد حقه في الطلاق أمام القاضي الفرنسي، فلن يقض له هذا الأخير بهذا، وذلك لأن قاعدة التنازع الفرنسية تخضعه لقانون الجنسية، أي القانون الإسباني الذي يحرم الطلاق سابقًا قبل 1982.

ونظرًا أن هذا الشرط يهدم فكرة الحقوق المكتسبة، ويتناقض مع معناها الحقيقي، لأن أساسها أن يكون القائم في قانون معين، محترمًا ومطبقًا في القانون الثاني، بالرغم من أن هذا الأخير لا يعترف به أساسًا، فأساس قيام هذه الفكرة، هو اختلاف ضوابط الإسناد بين الدول، وليس العكس. لهذا فإن الفقيه الفرنسي "نبواييه"، وهو من أنصار نظرية الحقوق المكتسبة، قد عدل قليلاً في مضمون هذه النظرية، بما يتجنب به الانتقادات السابقة، فسماها بالنفاد الدولي للحقوق، ورأى بأنه يجب احترام الحق المكتسب، وفقًا لقواعد التنازع في البلد الذي نشأ فيه فقط، متى ثبت بموجب قواعد الإسناد في القانون القاضي أنه غي مختص، أما إذا ثبت له الاختصاص، وجب أن ينشأ فيه، ففي المثال السابق ولأن القانون الفرنسي غير مختص أصلاً بحكم النزاع، فيجب أن يعترف القاضي الفرنسي بطلاق الإسباني، الذي تم صحيحًا وفقًا لقواعد الإسناد في البلد الذي نشأ فيه الحق، وهو هنا القانون الانجليزي الذي يخضع الطلاق لقانون الموطن.

أما إذا كان القانون الفرنسي مختص أصلاً بحكم النزاع، كأن يتعلق الأمر بزواج فرنسيين متوطنين بإنجلترا، وتم هذا الزواج وفقًا لقانون موطنهما الانجليزي، فإنه لن ينفذ في مواجهة القاضي الفرنسي، لأن قاعدة التنازع هناك، تسند الشروط الموضوعية للزواج لقانون الجنسية. وكذلك الحال، فلن ينفذ أمامه صحة زواج فرنسي في الجزائر بزوجة ثانية، لأن القانون الفرنسي مختص أصلاً، وهو يحرم التعدد في الزوجات.

وفي المقابل فإن الاتجاه الثاني، يبرر رأيه في تطبيق القانون القديم، بناءًا على استقرار النظم القانونية، وهو يتجسد من خلال الفقيه الفرنسي "بارتان" الذي يأتي بمبادئ مختلفة تمامًا عن الاتجاه الأول، إذ أنه يرى عدم التقيد بمعايير عامة توضع مسبقًا، في حل التنازع المتحرك، بل يجب البحث في كل حالة على حدا عن أنسب القوانين لحكمها، وهذا لا يكون إلا بتحديد القانون المختص في الزمان، كما يتحدد في المكان، وإن تحديد ذلك الوقت في تعيين ضابط الإسناد، يكون بتحليل الأهداف، واستخلاص الغرض الذي ترمي إليه القواعد القانونية، وتأمين أكبر قدر ممكن من الاستقرار للمعاملات.

فالنسبة للرابطة الزوجية من حيث انعقادها، آثارها، وانحلالها، يجب أن تكون ثابتة ثبوتًا مطلقًا، وذلك بإسنادها لقانون جنسية الزوج وقت انعقاد الزواج، ولا تتأثر بأي تغيير يطرأ على جنسية الزوج بعد ذلك، وفي خصوص النسب غير الشرعي يختص القانون الذي يوفر أكبر قسط من الاستقرار لمركز الطفل، وهو قانون جنسية الطفل وقت رفع الدعوى، في حين يتحدد النسب الشرعي بقانون جنسية الطفل وقت الميلاد.

بالرغم من أن لمذهب "بارتان"، القائم على عدم وضع مبدأ عام مسبق، لحل التنازع المتحرك، وإنما تحديد الظرف الزمني بما يتناسب مع العلاقة، أثره على معظم التشريعات التي أخذت بهذا، إلا أنه يوجه إليه نفس الانتقادات الموجهة لأنصار نظرية الحقوق المكتسبة، فهما يحولان التنازع المتحرك إلى تنازع ثابت، وذلك بإهمالهما للإسناد الجديد، فتبقى المسألة القانونية خاضعة للقانون الأصلي، أو القديم، بالرغم من التطورات التي تعرضت لها في الزمان.

ب_ النظرية التي تأخذ بالأثر الفوري للقانون الجديد وعدم رجعيته[22].

يمكن أن تطبق عليه أحكام تنازع القوانين من حيث الزمان، وذلك لأنه لا يختلف عن التنازع الزمني، إلا ببعض الفروق التي لا أهمية لها بالنسبة إلى صاحب الحق نفسه، إذ يستوي بالنسبة إلى حقه أن يتعاقب عليه قانونان داخل الدولة الواحدة، أو داخل دولتين مختلفتين كل ما هناك من فرق بالنسبة إليه، هو أنه يخضع حقه للقانون الجديد بإرادته، التي كانت سببًا في تغيير ضابط الإسناد في التنازع المتحرك، بينما يخضع حقه للقانون الجديد دون إرادته في التنازع الزمني.

وبهذا يكون موضوع المسألة التي يثيرها التنازع المتحرك، وهو وضع الحد الفاصل الذي يبين نهاية تطبيق القانون القديم، وبداية تطبيق القانون الجديد.

وعليه يخضع وجود الحق للقانون السابق، أي قانون الدولة التي نشأ في سلطانها، كما تخضع له أيضًا الآثار التي نشأت في ظله، أما مضمون الحق وآثاره المستقبلية، فيسري أن أنصار هذا الاتجاه، يبررون فكرهم على أسس مختلفة، فهناك من يرى أن أساس ذلك الاحترام الدولي للحقوق المكتسبة، بينما يبرره آخرون بالاعتماد على فكرة استقرار النظم القانونية. إن أنصار هذا الاتجاه، يبررون فكرهم على أسس مختلفة، فهناك من يرى أن أساس ذلك هو الاحترام الدولي للحقوق المكتسبة بينما يبرره آخرون بالاعتماد على فكرة استقرار النظم القانونية والوسائل التي أكتسب بها الحق، حتى لا يكون له أثر رجعي مثل الأثر الرجعي في التنازع الزمني.

ويبرر أنصار هذا الرأي مذهبهم، بأنه يفضي إلى الوحدة التشريعية في الدولة التي ينتسب إليها الشخص بجنسيته الجديدة، أو فيما يخص تنظيم المراكز القانونية مستقبلاً.

هذا غير أن هذا الرأي وجهت له الكثير من الانتقادات، وهي أن قياس التنازع المتحرك على التنازع الزمني قياس مع الفارق، فبما أن التنازع الزمني صادر من نفس الجهة التشريعية، فإن القانونيين على قدم المساواة، فتنحصر المسألة في تعيين نطاق تطبيقهما بناءًا على معيار عام مجرد وعلى العكس من ذلك، فإن صدور القانونيين في التنازع المتحرك من جهتين تشريعيتين مختلفتين، يجعلهما في حالة عدم مساواة، ويدعو للمفاضلة بينهما، مما يفيد أنه لا معنى حينئذ للتقيد مقدمًا بمبدأ الأثر الفوري للقانون الجديد.

كما أن وحدة التشريع التي يستند عليها أنصار هذه النظرية، تجد مجالها في نطاق الحياة الوطنية الداخلية فقط، أما التنازع المتحرك، هو حالة من حالات تنازع القوانين، والذي يقوم على مبدأ قبول تطبيق التشريعات الأجنبية في حدود معينة.

2_ الحلول التشريعية:

نظرًا أن التنازع المتحرك، من أصعب المسائل القانونية التي يتناولها القانون الدولي الخاص واختلاف الفقه واختلاف الرؤى بينهم وعدم حسم المسألة لهذا فإن أغلب التشريعات لم تحسم أمرها هي الأخرى بالأخذ بنظرية فقهية محددة، وإنما تبنت بمعايير مختلفة فهي من جهة لا تعتمد على مبدأ عام ومسبق للحل، وإنما تتناول معالجة أوضاع وحالات محددة بالذات.

ومن جهة أخرى تحل المسألة على أساس فكرة المفاضلة والملائمة بين القوانين المتنازعة.

وهذا الحل قد تبناه المشرع بالنسبة للتنازع الثابت، حين وضع قواعد إسناد محددة "مثلاً تفضيل قانون الجنسية على الموطن أو العكس بالنسبة للأحوال الشخصية"، وفي التنازع المتحرك، لجأ المشرع الإجراء المفاضلة بين القانونين المتعاقبين، وذلك بتحديد العامل الزمني، أو الوقت الذي يجب الاعتداد فيه بظرف الإسناد المكاني.

وهذا ما فعله المشرع الجزائري مثلاً، من خلال تفضيل قانون جنسية الزوج وقت انعقاد الزواج بالنسبة لآثاره الشخصية والمالية، وقانون جنسية الزوج وقت رفع الدعوى، بالنسبة لانحلاله "المادة 12 قانون مدني"، وإخضاع كل من شروط انعقاد الزواج، آثاره، وانحلاله، إلى القانون الجزائري وحده، إذا كان أحد الزوجين جزائريًّا وقت انعقاده "المادة 13 قانون مدني"، وتفضيل قانون جنسية الأب وقت ميلاد الطفل، بخصوص النسب، والاعتراف به، وإنكاره، أو قانون جنسيته وقت الوفاة، إذا توفي قبل ذلك "المادة 13 مكرر"، وإخضاع صحة الكفالة، ويلحق بها التبني إلى قانون جنسية كل من الكفيل والمكفول وقت إجرائها "المادة 13 مكرر 1"، وبما أن الهبة والوقف، يعتبران من التصرفات القانونية، فيتحدد قانون الجنسية بشأنهما، بوقت إجرائهما كذلك "المادة 16/2 قانون مدني"، أما بالنسبة للميراث فبالرغم من أن التحديد أن المشرع نص على ذلك صراحة وألحق به الوصية وسائر التصرفات التي تنفذ بعد الموت، إذ يخضعان لقانون جنسية الموصي أو القائم بالتصرف وقت موته "المادة 16/1 قانون مدني".

وبهذا يمكن القول، أن المشرع الجزائري أقدم على حل أغلب الفروض، التي يثور فيها التنازع المتحرك، في مجال الأحوال الشخصية، بتحديد الوقت الذي يعتد فيه بقانون جنسية الشخص.

كما أن المعاهدات الدولية بدورها، قد تطرح مثل هذه الحلول، كـ "اتفاقية لاهاي" المبرمة في 05 أكتوبر 1961، الخاصة بتنازع القوانين في شكل الوصية، والتي تعتبرها صحيحة من حيث الشكل، إذ أبرمت وفق قانون محل إبرامها، أو وفق قانون جنسية الموصي، سواء وقت إبرام الوصية أو وقت الوفاة، أو وفق قانون الدولة، التي بها موطن أو محل الإقامة العادية للموصي، سواء وقت إبرام الوصية أو وقت وفاته. والاتفاقية الفرنسية اليوغسلافية في 18 أيار 1971، التي نصت أنه في حالة تغيير أحد الزوجين لجنسيته، فإن الجنسية المشتركة للزوجين وقت إقامة الدعوى، هي من يؤخذ بعين الاعتبار في حالات انحلال الزواج.

ولكن إذا لم يجد القاضي حلاً للتنازع المتحرك لا تشريعيًّا ولا اتفاقيًّا، من خلال المعاهدات التي يبرمها بلده مع غيره من الدول، فحينئذ تصبح المفاضلة والملائمة بين القوانين.


 

 

المحور الثاني:

 

مسألة إعمال قاعدة الإسناد وموانع تطبيق القانون الأجنبي


المحور الثاني:

سنتناول من خلال هذا المحور مسألة إعمال قاعدة الإسناد وموانع تطبيق القانون الأجنبي في مبحثين.

المبحث الأول:

إعمال قاعدة الإسناد.

عرفنا أن توصل القاضي إلى حل المنازعة الخاصة الدولية يبدأ بتكييف المنازعة المطروحة أمامه لتليها مرحلة التطبيق قاعدة الإسناد الوطنية وصولاً إلى تحديد القانون الواجب التطبيق.

فإذا لاحظ القاضي الوطني أن قاعدة الإسناد تشير إلى تطبيق القانون الوطني فإن هذا الأخير هو الواجب التطبيق.

أما إذا أشارت إلى قانون أجنبي فإن الإشكال الذي يثار هنا هو إلى أي مدى يلتزم القاضي بتطبيقه؟ وهل يبحث عن هذا القانون من تلقاء نفسه؟ أم يجب على الخصوم التمسك بتطبيقه وهل يخضع لرقابة المحكمة العليا وهو بصدد تطبيق وتفسير هذا القانون الذي أشارت إليه قاعدة الإسناد؟ تلكم أهم المسائل الواجب الوقوف عنها في المطالب التالية:

المطلب الأول:

أساس تطبيق القانون الأجنبي.

إذا كان دور القاضي داخل إقليم الدولة التي ينتمي إليها يتجسد كأصل عام في السهر على تطبيق القانون إلا أن هذا القانون قد يمتد مجال تطبيقه خارج حدود دولة القاضي متى كانت المنازعة تنطوي على عنصر أجنبي ومن ثم فإن التساؤل الذي يطرح هو هل تحتفظ القواعد القانونية المطبقة بأوصاف القاعدة القانونية الصادرة عن المشرع ليطبقها القاضي الوطني أم لا؟.

فيما يتعلق بهذا الإشكال يلاحظ وجود عدة إتجاهات قضائية في النظم القانونية المختلفة بشأن تحديد مدى التزام القاضي الوطني بتطبيق قاعدة الإسناد الوطنية.

الاتجاه الأول: التزام القاضي الوطني بتطبيق قاعدة الإسناد الوطنية من تلقاء نفسه.

هذا الاتجاه يتزعمه الفقيه الألماني "كاهن" واعتمده القضاء الألماني وهو يرى أنه عندما تعرض على القاضي الوطني منازعة تنطوي على عنصر أجنبي فإن على القاضي تطبيق قاعدة الإسناد الوطنية من تلقاء نفسه، إذ يعتبر ملزم بذلك وإن لم يتمسك الخصوم بتطبيق قاعدة الإسناد أمامه.

ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للقاضي مخالفة الالتزام المفروض عليه بحجة أن الحل النهائي المكرس في القانون الوطني هو ذاته في القانون الأجنبي هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه وفقا لهذا الاتجاه فإنه لا يجوز التمسك بتطبيق قاعدة الإسناد الوطنية لأول مرة أمام المحكمة العليا لأن هذه الأخيرة لها حق تصحيح الأخطاء القانونية أما التمسك بقاعدة الإسناد فلا يعدو أن يكون مجرد إبداء لحجة قانونية[23].

ومن جهة ثالثة يترتب عن الأخذ بهذا الاتجاه أن حكم محكمة الموضوع إذا كان معيبا جاز الطعن فيه أمام المحكمة العليا "النقض" إذا ما تبث أن القاضي تنصل من التزامه بتطبيق قاعدة الإسناد الوطنية.

هذا الاتجاه أسس على أساس أن القانون الأجنبي يظل قانون محتفظ بطبيعته ليس داخل حدود الدول التي صدر عنها وحسب وإنما كذلك أمام قاضي الدولة الأخرى ولا يعتبر مجرد واقعة مادية أو عنصر من عناصرها ولكنه قانون بمعنى الكلمة وفقًا لفكرة التفويض كما يرى الفقهاء الفرنسيين أو فكرة اندماج القانون الأجنبي في القانون الوطني كما سار على ذلك الفقه الإيطالي.

2_ إن أنصار هذا الاتجاه وإن اختلفوا في تأسيس نظرتهم غير أنهم تعرضوا لانتقادات شديدة.

فالقول بفكرة الاندماج كما رأى غالبية الفقه تقوم في حقيقة الأمر على نوع من التحايل والخيال فالقول باندماج قواعد القانون الأجنبي بقواعد القانون الوطني أمر لا يستقيم فلا يمكن للقانون الوطني استيعاب قوانين كل الدول ومن غير المقبول والمنطق احتواء قانون القاضي لقواعد أجنبية إذا كانت تتعارض مع الأسس التي يقوم عليها قانون القاضي "أي فكرة النظام العام".

الاتجاه الثاني: عدم جواز إلزام القاضي الوطني بتطبيق قاعدة الإسناد من تلقاء نفسه

ويتزعم هذا الاتجاه القضاء الانجليزي والذي يرى بأن القاضي غير ملزم بتطبيق قاعدة الإسناد من تلقاء نفسه كما لا يلزم بالامتناع عن تطبيقها.

هذا الاتجاه ينطلق من فرضية وهي تطابق أحكام القانون الأجنبي تطابقًا كاملاً مع أحكام القانون الجزائري وهو الأمر الذي يؤدي إلى تطبيق الأحكام الموضوعية في القانون الإنجليزي مباشرة على جميع المنازعات التي تنطوي على عنصر أجنبي أي أنه من الناحية العملية القاضي الجزائري لن يلجأ في كل الأحوال إلى تطبيق قاعدة الإسناد ما لم يثبت الخصوم للقاضي أن مضمون القانون الأجنبي يختلف عن مضمون القواعد الموضوعية في القانون الجزائري.

الأمر الذي يترتب عنه وعلى خلاف الآثار المترتبة عن الاتجاه الأول أنه يجوز التمسك بتطبيق قاعدة الإسناد لأول مرة أمام المحكمة العليا الإنجليزية لكن هذه المسألة تدخل أصلا في اختصاص المحكمة العليا الإنجليزية والتي على خلاف النظم القانوني الأخرى تعطي للمحكمة العليا حق التعرض لوقائع الدعوى من جديد فضلا عن حق الرقابة على تطبيق القانون فالمحكمة العليا الانجليزي ليست فقط محكمة نقض بل هي صادرة عن محكمة درجة ثالثة لها الحق في النظر في النزاع برمته وليس من جانبه القانوني وفقط خلاف كما هو عليه الأمر في القضاء الفرنسي وسائر النظم المتأثرة به ومن ثم لا يجوز الطعن بالنقض لمجرد أن القاضي الإنجليزي لم يطبق قاعدة الإسناد من تلقاء نفسه.

إن أنصار هذا الاتجاه يؤسسون رأيهم على أساس أن القاضي الوطني الأنجلو أمريكي أن يطبق القانون الأجنبي لا يتعدى كونه مجرد اعتراف بالحق الذي تم اكتسابه في الخارج وأن القاضي لا يمكنه في كل الأحوال الاعتراف بهذا الحق وشرعيته إلا وفقًا للشروط والأوضاع التي يحددها القانون الأجنبي ذلك أن القانون الأجنبي لا يخرج عن كونه عنصر من عناصر الحق الذي نشأ في ظل القانون الأجنبي وكل من يرغب في التمسك بنشأة الحق في ظل قانون أجنبي ما غلبه إلا إثبات ذلك ويثبت القانون الأجنبي الذي يعتبر تسبب في نشأة هذا الحق فإن استطاع الخصوم إثبات ذلك فما على القاضي إلا الاعتراف بهذا الحق الذي نشأ وتم اكتسابه وفقًا أجنبي.

إن ما يؤخذ على هذا الاتجاه أنه عديم الفائدة ولم يأت بشيء جديد وأساسها غير سليم.

فالقول أن القانون الأجنبي ليس إلا مجرد واقعة وليس قانون مفاده أن هناك قانون واحد وهو قانون دولة القاضي الإنجليزي ما عداه ليست قوانين وهو أم غير مسلم به فقواعد القانون الأجنبي تحتفظ بجوهرها سواء طبقت من طرف القاضي الوطني أم طبقها قاضي أجنبي بوصفها قانون أجنبي وليس واقعة.

كما أنه ومن جهة أخرى فإن مسألة الاعتراف بالحقوق المكتسبة في الخارج التي تنشأ صحيحة وفقًا للقانون الذي نشأت في ظله مسألة ليست محل جدل وخلاف به كل الأنظمة القانونية شريطة أن لا تكون مخالفة للنظام العام في دولة القاضي الناظر في المنازعة وأن مسألة الاعتراف بالحقوق الناشئة في الخارج لا ينفى في كل الأحوال صفة القانون عن القانون الأجنبي الذي نشأت في ظله بما يجعل من هذا الاتجاه قاصر لم يلقى رواجًا في الفقه والقانون المقارن.

 

الاتجاه الثالث: جواز تطبيق القاضي الوطني لقاعدة الإسناد الوطنية من تلقاء نفسه.

ويتزعم هذا الاتجاه القضاء الفرنسي والذي يرى أن القاضي الوطني ليس ملزم بتطبيق قاعدة الإسناد الوطنية من تلقاء نفسه لكن ذلك لا يعني أنه ممنوع من هذا الحق بل له أن يطبقها لو أراد ذلك فالمسألة هي سلطة تقديرية للقاضي وحق يمكن له إعمالها من تلقاء نفسه أم لا، وبمعنى آخر إن قواعد الإسناد بالنسبة للقاضي الوطني غير ملزمة للقاضي وأن على الخصوم التمسك أمامه بتطبيقها القانون الأجنبي التي تشير إليه قاعدة الإسناد.

ويترتب على ما سبق ذكره أنه لا يجوز أن يتمسك الأفراد بتطبيق قاعدة الإسناد لأول مرة أمام المحكمة العليا ذلك أن المبدأ أنه لا يجوز تقديم أو إبداء طلبات أو دفوع لأول مرة أمام المحكمة العليا وأن حكم محكمة الموضوع لا يكون معيبًا  ومستوجبًا للنقض إذا ما أهمل القاضي أعمال قاعدة الإسناد ما دام الخصوم لم يتمسكوا بتطبيقها على اعتبار قواعد الإسناد ليست من النظام العام. وأخيرا وجب على الخصوم من أجل إخضاع منازعتهم للقانون الأجنبي التمسك بتطبيق قاعدة الإسناد هذا غير أن هذا الاتجاه وبعد تعديل المشرع الفرنسي الذي طال القانون المدني في مواد تنازع القوانين قد نص صراحة على وجوب تطبيق القاضي الفرنسي لقواعد الإسناد الفرنسية من تلقاء نفسه ليصبح تطبيق قاعدة الإسناد التزام على القاضي[24].

 


المطلب الثاني:

موقف المشرع الجزائري بإلزام القاضي الوطني بإعمال قاعدة الإسناد من تلقاء نفسه.

بالرجوع إلى القانون المدني الجزائري لا نجد نصا صريحًا يخص هذا الأمر، لكن يمكن الوقف على رأيين بهذا الصدد:

أ_ الرأي الأول: أنه من خلال استقراء نصوص قواعد التنازع من المادة 09 إلى نص المادة 24، يتبين لنا أنها قاعدة آمرة أي أن القاضي وجوبا ملزم بها.

ب_ أما الرأي الثاني: يقول أن القاضي غير ملزم، وحجته في ذلك هو أنه باستقراء نص المادة 233/05 الفقرة الخامسة من قانون الإجراءات المدنية، يتبين أنها قواعد غير ملزمة للقاضي وهذا ما كرسه القضاء الجزائري.

ذلك أنه إذا كانت قاعدة التنازع الوطنية تشير إلى تطبيق قانون أجنبي متعلق بالأحوال الشخصية فهو ملزم بها ولو لم يتمسك الأطراف بها، لأنها تعتبر من مسائل القانون، والقاضي نفسه ملزم كذلك بالبحث عن مضمون هذا القانون الأجنبي، أما إذا كانت المسألة من الواقع، فالقاضي غير ملزم بتطبيق قواعد الإسناد، إلا إذا تمسك الأطراف بها، وعبء الإثبات يقع على الطرف الذي يدعي إعمال القانون الأجنبي، لأن هذا النص الأجنبي في هذه الحالة يعامل معاملة الوقائع المتعلقة بالدعوى.

كما أن هذا الرأي يتبناه الاتجاه الفقه الحديث، وقد أخذت به العديد من الدول صراحة في نصوصها التشريعيةّ، وقد مالت إليه محكمة النقض الفرنسية عندما يكون النزاع يتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، مما يجعله يكاد يكون من المبادئ المستقر عليها في القانون الدولي الخاص التي تلزم القاضي الجزائري طبقًا للمادة 23 مكرر 2 من القانون المدني.


المبحث الثاني:

موانع تطبيق القانون الأجنبي.

رأينا في البحث الثاني أن الاختصاص ينعقد للقانون الأجنبي بحكم النزاع، بموجب قاعدة الإسناد الوطنية التي تشير بتطبيقه بوصفه القانون الأنسب لحكم العلاقة القانونية محل النزاع، غير أن مضمون هذا القانون الأجنبي قد يتعارض مع المفاهيم الأساسية والمبادئ القانونية المستقر عليها دولة القاضي، وهنا يمكن للقاضي الوطني استبعاده بسبب مخالفته للنظام العام، كما أن القانون الأجنبي قد يثبت له الاختصاص عن طريق التغيير الإرادي الاحتيالي لضابط الإسناد للهروب من أحكام قانون معين هو المختص أصلاً بحكم النزاع، وهنا يمكن للقاضي الامتناع عن تطبيقه بسبب "الغش نحو القانون".

إن معظم التشريعات في العالم قد أوجبت على القاضي الامتناع عن تطبيق القانون الأجنبي إذا خالف النظام العام أو إذا ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون كأسباب عامة لاستبعاد القانون الأجنبي، ومنها المشرع الجزائري الذي ينص في المادة 24/1 من القانون الدني: "لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفًا للنظام العام أو الآداب العامة في الجزائر، أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش في القانون.

وعلى هذا الأساس سوف نتطرق في مطلب أول إلى النظام العام كسبب لاستبعاد القانون الأجنبي وفي مطلب ثانٍ إلى العش في القانون.

 

المطلب الأول:

 النظام العام

عندما تعين قاعدة الإسناد الوطنية قانونًا أجنبيًّا لحكم العلاقة القانونية المطروحة أمام القاضي، فإن هذا التعيين يكون محددًا بشرط هام وهو عدم التعارض الجوهري بين مضمون هذا القانون، والركائز التي يقوم عليها النظام القانوني في دولة القاضي. وهو ما يعرف اختصارًا باسم النظام العام "L’ordre public".

إن فكرة النظام العام كانت معروفة منذ نشأة تنازع القوانين، غير أنها استعملت في بادئ الأمر كأداة لتثبيت الاختصاص للقانون الوطني، واستعملت فيما بعد من طرف الفقيه الألماني "سافيني"[25] كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي، لكن رغم ذلك فإن مفهومها ظل غامضًا ويصعب ضبطه، رغم اتفاق أغلب التشريعات على آثارها في استبعاد القانون الأجنبي المختص وتطبيق القانون الوطني مكانه، غير أنه مع ذلك فإن أغلب الفقه يفرق بين أثر النظام العام عندما تنشأ المراكز القانونية في دولة القاضي حيث يكون لفكرة النظام أثرها كاملاً وأثرها عندما تنشأ المراكز في دولة أجنبية وتنتج أثارها في دولة القاضي حيث يكون أثرها مخففًا.

 

الفرع الأول:

تطور فكرة النظام العام.

استعملت فكرة النظام العام في بادئ الأمر كأداة لتثبيت الاختصاص للقانون الوطني ولم تبرز بمفهومها الحالي كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي إلا مع الفقيه الألماني "سافيني".

1_ النظام العام كأداة لتثبيت الاختصاص للقانون العام الوطني.

بدأت الملامح الأولى لفكرة النظام العام مع المدرسة الايطالية القديمة حيث كان الفقيه "برت" يفرق بين الأحوال الملائمة التي يمكن أن يمتد تطبيقها إلى خارج الإقليم وبين الأحوال المكروهة التي يقتصر تطبيقها على داخل الإقليم.

ثم جاء الفقيه الإيطالي "مانشيني" "Mancini" رائد مدرسة شخصية القوانين واستعمل النظام العام كأداة لتثبيت الاختصاص للقانون الوطني كاستثناء على نظريته، مبررًا ذلك بكون هذه القوانين لا تشكل جزءًا من القوانين الشخصية، وبكونها ضرورية لصيانة النظام العام على الإقليم، مثل القوانين المتعلقة بالملكية العقارية والمسؤولية التقصيرية.

1_ النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي:

أول من استعمل فكرة النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي هو الفقيه الألماني "سافيني"، فبعد أن عرض نظريته في الاشتراك القانوني التي تسمح للدول الأوربية بتطبيق قوانين بعضها البعض، أشار إلى استثناء هام حول بموجبه لقاضي الامتناع عن تطبيق القانون الأجنبي إذا ما تبين له انقطاع "الوحدة القانونية" بين قانونه والقانون الأجنبي المختص.

وقد أخذ الفقيه الحديث عن "سافيني" نظريته للنظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي دون أن يشترط مسبقًا وجود "اشتراك قانوني"، وذلك لأن "سافيني" وجه نظريته في التنازع إلى الدول الأوروبية قبل أن تنتشر وتأخذ بها أغلب دول العالم[26].

 

الفرع الثاني:

صعوبة ضبط فكرة النظام العام كأداة واستبعاد القانون الأجنبي.

رغم أن الفقه الحديث مجمع على أهمية فكرة النظام ودورها كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي "سافيني" نظريته للنظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي إلا أنه يبقى مختلفًا مع ذلك حول تحديد مضمونها، ومع ذلك فإن هناك اتفاق حول تحديد هدفها المتمثل في تمكين القاضي من استبعاد القانون الأجنبي المختص إذا تعارض تطبيقه مع الأسس السياسية والاجتماعية السائدة في الدولة.

وهي على هذا الأساس فكرة مرنة ومتطورة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فما يعتبر اليوم من النظام العام قد لا يعتبر في المستقبل كذلك، وما يعتبر متعارضًا مع النظام العام في دولة ما قد لا يعتبر في دولة أخرى كذلك. فهي فكرة لا تتجسد إلا عندما تقوم بوظيفتها ويصعب تحديدها قبل ذلك.

وقد أدت الاعتبارات السالفة الذكر إلى إعطاء القاضي سلطة واسعة في تقديرها حسب المفاهيم السائدة في دولته على أن القاضي يقتصر في تقديره لمدى تعارض القانون الأجنبي مع النظام العام في دولته على مضمون هذا القانون، وإنما إضافة إلى ذلك على الأثر الذي يتركه تطبيق هذا القانون على النزاع، إذ قد يكون القانون الأجنبي في ظاهره، غير أن الأثر الذي يترتب عن تطبيقه هو الذي يتعارض مع النظام العام.

ويضيف الفقه الألماني معيارًا آخر، وهو ضرورة وجود صلة بين النزاع ودولة القاضي، وفي هذه الحالة يجب التفريق بينما إذا كان تطبيق القانونية الأجنبي المتعارض مع النظام العام ينتج أثاره في دولة القاضي أم خارجها، وهذا الرأي تبنته مؤخرًا محكمة النقض الفرنسية. في قرار صادر لها بتاريخ 10 فيفري 1993 في قضية تتعلق بإثبات النسب الطبيعي "la filiation naturelle"[27] إذ نص هذا القرار "إذا كان القانون الأجنبي الذي يمنع إثبات النسب الطبيعي لا يتعارض مبدئيًّا مع مفهوم الفرنسي للنظام العام، إلا أنه يتعارض مع هذا النظام إذا كان يحرم طفلاً فرنسيًّا، أو مقيمًا بصفة دائمة في فرنسا من حقه في إثبات نسبه، مما يتعين معه استبعاد هذا القانون الأجنبي.

 


الفرع الثالث:

 أثر النظام العام.

إذا تعارض القانون الأجنبي مع النظام العام في دولة القاضي، ترتب على ذلك أثران، أثر سلبي، وهو الاستبعاد الجزئي أو الكلي للقانون الأجنبي والأثر الإيجابي وهو ثبوت الاختصاص للقانون الوطني.

1_ الأثر السلبي للنظام العام.

يتمثل الأثر السلبي للنظام العام في استبعاد تطبيق القانون الأجنبي، لكن السؤال الذي يطرح هنا هو هل يتم استبعاده كليًّا أم يستبعد منه الجزء المتعارض مع النظام العام فقط؟.

إن الاتجاه الفقهي الغالب هنا[28] هو أن الأثر السلبي للنظام العام ليس من شأنه استبعاد القانون الأجنبي كليا، وإنما الأمر يقتصر على الجزء الذي يتعارض مع النظام العام، ويطبق القانون الأجنبي على باقي عناصر النزاع.

هذا الرأي كرسه القضاء الفرنسي في القرار الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 17/11/1964 جاء فيه "أن ما تنص عليه أحكام الشريعة الإسلامية في الميراث لا يمس النظام العام في فرنسا، إلا في منعها التوارث بين مسلم وغير مسلم ومن ثم يتعين استبعاد أحكام الشريعة الإسلامية في هذه النقطة وحسب، من دون أن يحل القانون الفرنسي محل القانون الأجنبي الإسلامي في بيان مراتب الورثة وأنصبتهم".

ويستند هذا الاتجاه إلى حجج عدة منها أنه ينبغي استخدام الدفع بالنظام العام بحذر شديد وفقا للغاية التي يسعى إلى تحقيقها، أي بالقدر الذي يمنع المساس بالمبادئ الأساسية السائدة في دولة القاضي، كما أن الدفع بالنظام العام لا يهدف إلى إصدار حكم قيمي على القانون الأجنبي برمته، وإنما يهدف فحسب إلى استبعاد النتيجة المخالفة للنظام العام ومتى أمكن ذلك عن طريق الاستبعاد الجزئي كان ذلك أمرًا مقبولاً.

غير أن هذا الحل يرد عليه استثناء وحيد، وهو في حالة ما إذا ثمة ارتباط بين أجزاء القانون الاجنبي بحيث يكون من المستحيل استبعاده جزئيًّا ففي هذه الحالة يستبعد القانون الأجنبي كليًّا[29].

2_ الأثر الإيجابي للنظام العام:

الأثر الإيجابي للنظام العام هو تطبيق القانون الوطني للقاضي محل القانون الأجنبي المستبعد وهو ما تبناه المشرع الجزائري بنص المادة 24/2 من القانون المدني. فالدفع بالنظام العام هو بهذا مسألة موضوعية على خلاف ما ينظر إليه في البلاد الأنكلوسكسونية على أنه مسألة إجراءات، حيث تكتفي المحكمة باستبعاد تطبيق القانون الأجنبي وتحيل الأطراف إلى محكمة أخرى.

ورغم أن الاتجاه الفقهي الغالب ومعظم التشريعات تؤكد أن الأثر الايجابي للنظام العام هو تطبيق قانون القاضي، إلا أن جانبًا من الفقه الألماني يرى أن الأثر الايجابي هو تطبيق نص قانوني آخر من القانون الأجنبي لا يتعارض مع النظام العام. يستند هذا الاتجاه إلى قرار صادر عن محكمة النقض الألمانية استبعدت نص القانون السويسري الذي يمنع تقادم الدين محل النزاع بسبب تعارضه مع النظام العام، وأخضعت الدين إلى أطول مدة تقادم نص عليها القانون السويسري نفسه.

إلا أن هذا الرأي محل نقض لكون القانون الأجنبي المطبق في هذه الحالة لا علاقة له بالنزاع كما أنه لا يمكن تطبيقه في أغلب الحالات التي يصعب فيها العثور على نص قانوني بديل.

الفرع الرابع:

الأثر المخفف لنظام العام

يميز الفقه والقضاء عادة في مجال أثر النظام العام بين الحالة التي تنشأ فيها الحقوق في دولة القاضي، حيث يكون للنظام العام أثره كاملاً "Plein effet" وبين الحالة التي تنشأ فيها الحقوق في ظل قانون دولة أجنبية وتنتج آثارها في دولة القاضي حيث يكون للنظام العام أثر مخففا "Effet atténué".

وتستند هذه الفكرة إلى أنه ثمة حالات يتعارض فيها القانون الأجنبي مع النظام العام سواء نشأ الحق موضوع النزاع في الخارج أو في دولة القاضي، وهناك حالات أخرى يتعارض فيها فقط إذا نشأ في دولة القاضي، ولهذا الموقف عدة تطبيقات في القضاء الفرنسي، منها أن محكمة النقض الفرنسية قضت بعدم الاعتراف بحق الملكية الذي اكتسب في الخارج عن طريق نزع الملكية دون تعويض، وبالمقابل فإنها تعترف بآثار الطلاق بالإرادة المنفرة.

وكذلك تعدد الزوجات الذي نشأ في الخارج رغم أن القانون الفرنسي لا يقره، لكن إذا أريد الاعتراف ببعض آثاره كحق الزوجة في طلب النفقة أو الإرث فإن هذا الأثر ليس فيه ما يمس النظام العام في فرنسا.

غير أن هناك حالات أخرى لا يعترف فيها القضاء الفرنسي بآثار هذا الزواج، وذلك متى كان للنزاع علاقة بالقانون أو الإقليم الفرنسي، ومن ذلك على سبيل المثال على ما جاء به قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 01 مارس 1973 الذي اعتبر فيه: "أن الزوجة الثانية لزوج جزائري لا يمكنها المطالبة بمنحة الضمان الاجتماعي، مادام أن الزوجة الأولى قد استفادت منه لتعارض ذلك مع النظام العام في فرنسا[30].

 

المطلب الثاني:

الغش نحو القانون

رأينا فيما سبق أن كل قاعدة إسناد تعتمد عبى ضابط معين لتحديد القانون الواجب التطبيق، وكثير من هذه الضوابط يكون للأفراد دخل في تغييرها كالجنسية أو الموطن أو موقع المنقول، والأصل أن قيام الأفراد بتغيير هذه الضوابط يترتب عليه كامل آثاره، غير أنه إذا دخلت نية الغش على هذا التغيير الإرادي أي أن التغيير في ضابط الإسناد تم بهدف التهرب من أحكام قانون معين وسعيا لتطبيق قانون آخر، فإن القانون هنا يتدخل إعمالاً للقاعدة القانونية القديمة "الغش يفسد كل أمر"، ويحرم بالتالي الغاش من الاستفادة من غشه باستبعاد القانون الأجنبي الذي ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون "La fraude à la loi".

ويعود أصل نظرية الغش نحو القانون إلى القضاء الفرنسي الذي طبقها في قضية شهيرة هي قضية الأميرة "دوبوفرمون" "De bouffement"، الذي أشترط لإعمالها توفر شرطين هما التغيير الإداري لضابط الإسناد ونية الغش، وهذا سواء كان القانون المتهرب من أحكامه قانون القاضي أو قانونًا أجنبيًّا آخر، ورتب على الدفع بالغش استبعاد القانون الأجنبي الذي ثبت له الاختصاص عن طريق الغش وتطبيق القانون المختص أصلاً.

 

الفرع الأول:

 نشأة نظرية الغش نحو القانون.

طرحت نظرية الغش نحو القانون كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي لأول مرة أمام القضاء الفرنسي في قضية تعرف بقضية الأميرة "دوبوفرمون" التي تتلخص وقائعها في أن أميرة بلجيكية الأصل تزوجت بالأمير الفرنسي "دوبوفرمون" واستقرت معه في فرنسا واكتسبت الجنسية الفرنسية، وعلى إثر خلاف بينهما حاولت الحصول على الطلاق غير أنها لم تستطع لكون القانون الفرنسي آنذاك كان يمنع الطلاق فلجأت إلى التجنس بجنسية إحدى الدويلات الألمانية التي يجيز قانونًا الطلاق، وتمكنت بعد ذلك من الطلاق من زوجها الأول، وتزوجت بأمير روماني واستقرت معه في فرنسا، وحصل بعد ذلك أن رفع زوجها الأول دعوى طالب فيها ببطلان الزواج الثاني لكون الطلاق لا يعتبر صحيحا، لأنه تم بعد تغيير الجنسية، وقد قضت محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 18/03/1878 بإبطال الزواج الثاني على أساس أن الطلاق لم يتم إلا بعد تغيير الزوجة لجنسيتها، وهو ما يشكل غشا نحو القانون.

ومنذ ذلك التاريخ استقر القضاء الفرنسي على الأخذ بالغش نحو القانون كسبب لاستبعاد القانون الأجنبي، وقد أفسح لهذه النظرية مجالاً للتطبيق لم تحظ به في كثير من الدول، فإذا كان القضاء في دول مثل بلجيكا وايطاليا أخذ بها مع تضييق في نطاق تطبيقها، فإن تطبيقها في دول أخرى كألمانيا كان نادرًا جدًّا، أما في البلاد الأنجلوسكسونية فإن الفقه لم يهتم بها إطلاقًا ومن النادر أن نجد تطبيقها لها في القضاء، كما أن بعض الدول مثل سويسرا عالجت هذه المشكلة بنصوص تشريعية في حالات محددة دون أن تضع لها قاعدة عامة.

أما في الجزائر فقد تبنى المشرع الجزائري هذه النظرية بموجب نص تشريعي هو نص المادة 24/1 من القانون المدني.

 

الفرع الثاني:

شروط الدفع بالغش نحو القانون.

المشرع الجزائري لم يتعرض لهذه الشروط صراحة في المادة 24 من القانون المدني وترك الأمر للفقه الذي اختلف حول هذه الشروط، اذ اتفق في البعض منها واختلف في البعض الآخر.

أولا: الشروط المتفق عليها.

1_ تغيير أطراف العلاقة إراديًّا لضابط الإسناد.

وهي ما استقر الفقه على تسميتها بالركن المادي للغش[31] كأن يقوم الأطراف باصطناع العنصر الأجنبي في علاقاتهم القانونية لتجنب الخضوع لقانون القاضي الوطني مع أنها في الأصل علاقة وطنية محضة، أو القيام بالعكس بتغيير العنصر الأجنبي بعناصر وطنية لتتحول إلى علاقة وطنية، يحكمها القانون الوطني فالغش هنا واقع في كل الحالات.

2_ الركن المعنوي للغش.

وهو ما يعرف بنية الغش نحو القانون، ويراد به نية التحايل والتهرب من أحكام القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية.

هذا وإذا رأى بعض من الفقهاء بعدم وجوب التقيد بشرط وجود النية، واعتبار الغش قد وقع لمجرد إجراء عملية تغيير ضابط الإسناد المقترن بملابسات وظروف خارجية، إلا أن المتفق عليه بين أغلبية الفقهاء وما استقر عليه القضاء الحديث هو الأخذ بهذا الشرط بحيث يستخلص الباعث من الغش من طرف قضاة الموضوع باعتباره مسألة واقع، إلا أن تقدير الأثر المترتب على الغش يشكل مخالفة للقانون يضع رقابة المحكمة العليا عندًا في الجزائر وفي ذلك ضمانًا كافية لحماية حقوق الأفراد[32].

أما بالنسبة لموقف المشرع الجزائري يمكن أن نستشف مدلول هذين الشرطين من خلال مقتضى نص المادة 24 من القانون المدني رغم عدم الإشارة إليهما صراحة.

ثانيًا: الشروط المختلف فيها بين الفقهاء للدفع بالغش نحو القانون.

وهذه الشروط تتمثل فيما يلي:

1_ حصول الغش نحو قانون القاضي:

إن حصول الغش نحو قانون القاضي شرط نادى به الفقهاء وعمل به القضاء في فرنسا في بداية الأمر، لكن بعد سنة 1961 حكم القضاء الفرنسي بإبطال كل العقود المشتملة على الغش نحو القوانين الأجنبية في 07 مارس 1961.

وهو الأمر الذي أخذ به الفقه الحديث وسايره في ذلك المشرع الجزائري إذ ورد في المادة 24 من القانون المدني "الغش نحو القانون" وهو لفظ عام يسري على قانون القاضي أو القانون الأجنبي.


2_ أن يكون الغش موجهًا نحو قاعدة آمرة:

قصر بعض الفقهاء استعمال قاعدة الدفع بالغش نحو القانون على حالات التهرب من القواعد القانونية الآمرة دون القواعد المكملة، لأن المكملة لا يتصور التهرب من أحكامها على أساس أن المشرع أجاز للأفراد الخروج عنها، وإن كان الفقه الحديث لا يفرق بين هذه القواعد في خضوعها لقاعدة إعمال الدفع بالغش نحو القانون.

ولهذا لا يجوز للأفراد ممارسة حرية الاختيار المخولة قانونًا لهم في مجال العقود الدولية للتوصل إلى إخضاع العقد لقانون لا يستجيب لطبيعة العلاقة ولا تربطه بالعقد أية صلة من أجل تحقيق مصلحة ذاتية للمتعاقدين[33].

أما بالنسبة لموقف المشرع الجزائري من هذا الشرط فيبدو أنه ساير الفقه  الحديث ذلك أنه يجيز استعمال قاعدة الدفع بالغش نحو القانون بصفة عامة سواء تعلق الأمر بالتهرب من أحكام القواعد الآمرة أم القواعد المكملة. والدليل على هذا ما أوردته المادة 18 في نصها الجديد بموجب المادة 11 المعدلة لها الصادرة بالقانون رقم 05-10.

3_ اعتبار الدفع بالغش نحو القانون وسيلة احتياطية.

حيث يتمسك به في حالة ما إذا كانت المخالفة المترتبة عنه هي مخالفة غير مباشرة للقانون المراد الإفلات من أحكامه، لأنه إن كانت المخالفة مباشرة ضد إحدى قواعد الإسناد فيتم استعمال الدفع الأصلي المناسب لهذه الحالة لاستبعاد الآثار المحققة في ظل القانون الأجنبي المطبق في الدفع بالغش الخارج دون حاجة للجوء إلى نحو القانون[34]، كأن يتوطن شخص في إنجلترا بغرض الحصول على تطليق زوجته لأن قانونه الشخصي لا يسمح له بذلك، وتحصل على مراده طبقًا لقانون الموطن المعمول به في إنجلترا وبالتالي فالقانون المختص أصلاً هنا حسب قواعد الإسناد لقانون ذلك الشخص هو قانون بلده وليس قانون إنجلترا.

الفرع الثالث:

نطاق الدفع بالغش نحو القانون.

إن الفقه الحديث يميل إلى تطبيق نظرية الغش نحو القانون، سواء كان القانون المتهرب من أحكامه هو قانون القاضي الوطني، أم قانونًا أجنبيًّا آخر، مستندًا في ذلك إلى كون نظرية الغش نحو القانون تستجيب إلى مبدأ عام وهو مطاردة الغش بكل صوره سواء قصد به التهرب من أحكام القانون الوطني أو قانون أجنبي آخر، وهذا الاتجاه هو الذي تبناه القضاء الفرنسي مؤخرًا.

ويبدو أن هذا الرأي هو الذي تبناه المشرع الجزائري، عندما نص في المادة 24 من القانون المدني على استبعاد تطبيق القانون الأجنبي إذا كان مخالفًا للنظام العام أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون، ثم نص في الفقرة الثانية أن القانون الجزائري هو الذي يطبق محل القانون الأجنبي المخالف للنظام العام، وسكت بالمقابل على القانون الذي يطبق في حالة ثبوت الغش، مما يعني أنه قد يكون القانون الجزائري إذا كان هو القانون الذي تهرب الأفراد من تطبيق أحكامه، وقد يكون قانونًا أجنبيًّا إذا كان هو ضحية الغش.

الفرع الرابع:

أثر الدفع بالغش نحو القانون.

يثور التساؤل في هذا المجال حول ما إذا كان أثر الدفع بالغش نحو القانون يمس النتيجة فقط التي سعى الشخص لتحقيقها، أم يمتد ليشمل النتيجة والوسيلة معًا؟.

وإذا ما غير الشخص جنسيته لإثبات الاختصاص لقانون معين فهل ينحصر أثر الغش حول استبعاد تطبيق هذا القانون، وتطبيق القانون المختص أصلا مكانهّ؟ أم يمتد ليشتمل  إلغاء الجنسية الجديدة التي اكتسبها الشخص؟[35].

للإجابة على هذا التساؤل يرى جانب من الفقه أن أثر الدفع بالغش يمتد ليشتمل النتيجة والوسيلة معًا، فهو في المثال السابق يستبعد القانون الذي ثبت له الاختصاص بواسطة الغش ويطبق القانون المختص مكانه ويلغي الجنسية الجديدة التي اكتسبها الشخص.

 غير أن هذا الرأي محل انتقادات عديدة أهمها أن الوسيلة التي تم بها تغيير القانون المختص وإتيان الاختصاص لقانون آخر تم اكتسابها بطريقة صحيحة ومشروعة، وأن الشخص يفترض أن كافة الشروط قد توافرت فيه، وأن الجزاء المعقول في هذه الحالة هو عدم الاعتداد بالتجنس في القضية التي طرح فيها النزاع فقط.

ولهذا فإن الفقه الغالب يميل إلى القول أن أثر الغش ينصب فقط على استبعاد القانون الأجنبي الذي ثبت له الاختصاص وفقًا للضابط المفتعل وإعادة الاختصاص إلى القانون الذي تهرب الشخص من أحكامه، فأثر الغش هو أثر حلولي أو استبدالي، أي إحلال القانون المختص مكان القانون الذي انعقد له الاختصاص بالتغيير في ضابط الإسناد.

 



[1]  د. هشام علي صادق، تنازع القوانين، الطبعة الثانية، منشأة المعارف، الاسكندرية، سنة 1972، ص5.

[2]  ابراهيم أحمد ابراهيم: القانون الدولي الخاص، تنازع القوانين، دار النهضة العربية، سنة 2002، ص153.

[3] عوض الله شيبة الحمدية: الوجيز في القانون الدولي الخاص، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، سنة 1997، ص333.

[4] د. عبد السند يمامة، مرجع سابق، ص37.

[5]  ابراهيم أحمد إبراهيم: القانون الدولي الخاص، تنازع القوانين، دار النهضة العربية، طبعة 2002، ص160-161.

[6] د. فؤاد عبد المنعم رياض: سياسة راشد: الوسيط في القانون الدولي الخاص، الجزء الثاني، تنازع القوانين، دار النهضة العربية، ص32.

[7] د.حفيظة السيد الحداد: القانون الدولي الخاص، الكتاب الأول، تنازع القوانين، منشورات الحلبي الحقوقية، ص23.

[8] أعراب بالقاسم: القانون الدولي الخاص، طبعة 2005، دار هوامة للنشر والتوزيع، ص68.

[9] الدكتور أعراب بلقاسم: القانون الدولي الخاص، طبعة 2005، دار هوامة للنشر والتوزيع، ص68.

[10] أنظر توسعا في المسألة: د. محمد السيد عرفة، القانون الدولي الخاص، الكتاب الثاني في التنازع الدولي للقوانين، دار النهضة العربية، طبعة 1993، ص51 وما بعدها.

[11] أحمد عبد الكريم سامة، الأصول في التنازع الدولي للقوانين، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر، 2005، ص367.

[12] زروني الطيب، القانون الدولي الخاص الجزائري، ج1، بدون طبعة، مطبعة الكاهنة، الجزائر، 2004، ص88.

[13] نشر بارتان نظريته في مقال شهير سنة 1891 في مجموعة:

Clunet. L’impossibilité d’arriver: à la répression définitive des conflits de lois.

وقد تناول الأستاذ "كهان" في ألمانيا مشكلة التكييف في مقال نشره سنة 1891 وصاغ فيه قاعدة اخضاع التكييف لقانون القاضي.

Voir François Rigaud: droit international privé, Ets; 1968; p147.

[14]  أنظر توسعًا: رأى الفقه في المسألة وأهم النظريات كل من:

_ عبد السيد يمامة: مرجع سابق، ص52 وما بعدها.

_ محمد السيد عرفة: مرجع سابق، ص61 وما بعدها.

_ إبراهيم أحمد إبراهيم، مرجع سابق، ص 87 وما بعدها.

[15] هشام صادق: تنازع القوانين، الطبعة3، القاهرة، سنة 1974، ص23.

_ أنظر توسعا عز الدين عبد الله القانون الدولي الخاص، الجزء الثاني الطبعة التاسعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة1980، ص161، وما بعدها.

[16] لمزيد من التفاصيل راجع: حفيظة السيد الحداد: القانون الدولي الخاص، تنازع القوانين –الاختصاص القضائي الدولي- الجنسية، الكتاب الأول، تنازع القوانين، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، مصر، 2005، ص من 91 إلى 93.

[17] أنظر كل من:

_فؤاد عبد المنعم رياض وسامية رشاد: تنازع القوانين والاختصاص القضائي وآثار الأحكام الأجنبية، طبعة 1994، صفحة 160.

_ عز الدين عبد الله: المرجع السابق، ص161.

[18] لتفاصيل أكثر راجع:

_ أحمد عبد الكريم سامة، المرجع السابق، ص119.

_ أحمد عبد الكريم سامة، المرجع السابق، ص 449-449. ص119-120.

[19] أنظر توسعًا كل من:

_ بشور فتيحة: محاضرات في القانون الدولي الخاص، تنازع القوانين، كلية الحقوق، آكلي محند، جامعة البويرة، الجزائر، سنة 2016-2017، ص 22 إلى 25.

_ أعراب بلقاسم، المرجع السابق، ص111-115.

[20] لمزيد من التفصيل أنظر: محمد السيد عرفة: المرجع السابق، ص124 وما بعدها.

[21] لتفاصيل أكثر حول نظرية الحقوق المكتسبة كأساس لتطبيق القانون الأجنبي راجع كل من:

_ علي علي سليمان، المرجع السابق، ص131-132.

_ أعراب بلقاسم، المرجع السابق، ص111-115.

[22] أنظر تفصيل النظرية كل من:

_ هشام صادق: المرجع السابق، ص ص 110-115.

_ أعراب بلقاسم، المرجع السابق، ص111-112.

[23] محمد السيد عرفة: المرجع السابق، ص124 وما بعدها.

[24] محمد السيد عرفة: المرجع السابق، ص196-197.

[25] _ أنظر توسعًا: زاير فاطمة الزهراء: النظام العام في النزاعات الدولية الخاصة المتعلقة بالأحوال الشخصية، مذكرة لنيل شهادة الماستر في القانون الدولي الخاص، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبي بكر بالقايد، تلمسان، سنة 2010-2011، ص12 وما بعدها.

[26] _ أنظر توسعًا في ذلك: زاير فاطمة الزهراء: المرجع السابق، ص12 وما بعدها.

[27] أعراب بلقاسم: المرجع السابق، ص168-169.

[28] غالب الدوادي: المرجع السابق، ص158.

[29] أعراب بلقاسم: المرجع السابق، ص177.

[30] أعراب بلقاسم: المرجع السابق، ص182.

[31] نادية فضيل: المرجع السابق، ص311.

[32] زيروني الطيب: القانون الدولي الخاص الجزائري مقارنًا بالقوانين العربية، تنازع القوانين الجزء الأول، مطبعة الكاهنة، الجزائر، 2000، ص266.

[33] فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد: المرجع السابق، ص164.

[34] زيروني الطيب: المرجع السابق، ص267.

[35] أنظر توسعًا كل من:

_ زيروني الطيب، المرجع السابق، ص270.

_ أعراب بلقاسم، المرجع السابق، ص 197.