الفصل الثاني
تبرم العقود في القانون الخاص بمجرد توافر الأركان الأساسية للعقد، بينما تنفرد العقود الإدارية بإجراءات إضافية تضع الإدارة في مركز قانوني متميز وتمنحها سلطات لا نظير لها في العقود المدنية والتجارية، فالعقود الإدارية ترتبط في الغالب بتسيير مرافق عامة وتستعمل في ذلك أموالا عامة، مما يفرض على المصلحة المتعاقدة البحث دائما على أكبر قدر ممكن من الضمانات في اختيار المتعاملين المتعاقدين معها، وهذا بغرض الحصول على خدمات بأحسن المواصفات وبأقل التكاليف، لذلك تنفرد المصلحة المتعاقدة بصياغة بنود العقد وتحديد شروطه، ولا يملك الطرف المتعاقد معها إلا قبول تلك الشروط أو عدم إبرام العقد، وحتى بعد توقيع العقد والشروع في تنفيذه، فهي تتمتع كذلك بسلطة تعديل بنود العقد بإرادتها المنفردة[1]، وهذا على خلاف مبدأ العقد شريعة المتعاقدين المعمول به في القانون المدني، والذي يمنع تعديل بنود العقد اثناء تنفيذهحفاظا على استقرار المعاملات وعدم المساس بالمراكز القانونية للأطراف المتعاقدة.
وباعتبار أن الصفقات العمومية من أبرز العقود الإدارية التي تستخدمها الإدارة لتلبية حاجياتها وتحقيق أهدافها، فهي تخضع في إبرامها للقواعد التي يتطلبها هذا الأسلوب الإداري في التعاقد، والذي يقوم على تغليب المصلحة العامة على حساب المصلحة الخاصة، حيث تملك الإدارة سلطة اختيار الأسلوب الذي تراه مناسبا لإبرام العقد، غير أن هذه السلطة التي تتمتع بها ليست مطلقة، فمبدأ حرية الوصول إلى الطلبات العمومية الذي يكرسه قانون الصفقات العمومية، يفرض عليها فسح المجال لحرية المنافسة وتفادي كافة الممارسات التي من شأنها الإخلال بهذا المبدأ، وعملا بذلك فقد ألزم المشرع المصلحة المتعاقدة بإتباع إحدى الطريقتين وهما [2]: إجراء طلب العروض والذي يشكل قاعدة عامة لإبرام جميع الصفقات العمومية (المبحث الأول) أو التراضي والذي تسميه بعض المراجع العربية بالتعاقد المباشر ومراجع أخرى تسميه التفاوض المباشر، كأسلوب استثنائي لذلك (المبحث الثاني).
إلى جانب ذلك، تضمن قانون الصفقات العمومية أحكاما أخرى تتعلق ببعض أنواع الصفقات العمومية والتي تبرم وفق إجراءات خاصة بها، حيث تضمنت المادة 12 إجراءات تخص الصفقات العمومية التي تبرم في حالة الاستعجال الملح، بينما تضمنت أحكام المواد من 13 إلى 22 إجراءات مكيفة تخص بعض الطلبات العمومية، وتضمنت المادة 23 إجراءات تخص الصفقات التي تتطلب السرعة في اتخاذ القرار، وتشير المادة 25 إلى إجراءات متعلقة بتكاليف الماء والغاز والكهرباء والانترنت.
المبحث الثاني: التراضي كأسلوب استثنائي لإبرام الصفقات العمومية
كما أشرنا سابقا، فإن الأصل في إبرام الصفقات العمومية هو عن طريق طلب العروض، غير أنه في بعض الحالات قد تلجأ المصلحة المتعاقدة إلى إبرام العقد عن طريق التراضي، وتستعمل كلمة التراضي من الناحية اللغوية للدلالة على التوافق الحاصل بين طرفين على أمر معين، وهي من الفعل رضي فيقال رضي فلان بحكم الله أي سلم واقتنع بما آتاه الله، وأرضى فلان أخاه أي جعله يقبل بالأمر، ويقال كذلك تراضى الرجلان أي توافقا على أمر معين، وتستعمل كلمة التراضي في مجال الصفقات العمومية للدلالة على أسلوب معين لإبرام العقد، ولا نقصد به التراضي أو الرضا والذي هو أحد الأركان الأساسية للعقد (المطلب الأول) ويأخذ هذا الأسلوب في إبرام الصفقات صورتين أساسيتين وهما التراضي البسيط والتراضي بعد استشارة ( المطلب الثاني).
المطلب الأول: مفهوم التراضي كأسلوب لإبرام الصفقات العمومية
رأينا سابقا بأن أسلوب طلب العروض يتطلب اتباع إجراءات شكلية محددة في إبرام الصفقات العمومية، وهذا منذ الإعلان عن الصفقة وإلى غاية اختيار المتعامل المتعاقد، وعلى العكس من ذلك تتمتع المصلحة المتعاقدة في أسلوب التراضي أو التعاقد المباشر بحرية واسعة في اختيار المتعامل المتعاقد، ولا يقيدها في ذلك إلا الاعتبارات التي تقتضيها المصلحة العامة، حيث تلجأ إلى اختيار الطرف المتعاقد معها على أساس التفاوض المباشر ودون الدعوة الشكلية إلى المنافسة[12]، وفي حالة التوصل إلى اتفاق نهائي يصب العقد في قالب مكتوب ويوقع عليه الطرفان، فيصبح قابلا للتنفيذ بعد المصادقة عليه من قبل هيئات الرقابة المختصة.
من الناحية العملية، فإن هذا الأسلوب في التعاقد يوفر الكثير من الجهد والوقت والتكاليف، غير أن مبدأ حرية المنافسة الذي يقوم عليه قانون الصفقات العمومية يقتضي تقييد سلطة الإدارة في هذا المجال، بحيث لا يمكن لها اللجوء إلى هذا الأسلوب في إبرام الصفقات إلا في حالات محددة على سبيل الحصر.
علاوة على ذلك فقد حرص المشرع على وضع مجموعة من الضوابط في إبرام هذا النوع من الصفقاتوالتي يتعين على المصلحة المتعاقدة مراعاتها تحت طائلة البطلان، حيث ينبغي عليها قبل الشروع في ابرام الصفقة، تحديد الحاجات الواجب تلبيتها بدقة، والتأكد من القدرات التقنية والمهنية والمالية للمتعامل المتعاقد معهاوإجراء مفاوضات حول شروط إبرام الصفقة وتنفيذها، على أن تؤسس المفاوضات المتعلقة بالعرض المالي على أساس أسعار مرجعية، وأن يتم اختيار المتعامل الذي يقدم عرضا يتوفر على أفضل المزايا الاقتصادية.
المطلب الثاني: أشكال التراضي
كما أشرنا سابقا، فإن التراضي هو أحد الأساليب الممكنة لإبرام الصفقات العمومية، وهو أسلوب ذو طابع استثنائي و لا يجوز اللجوء إليه إلا في حالات محددة على سبيل الحصر بموجب القانون، إلى جانب ذلك فإنه ينبغي التمييز بين نوعين من التراضي وهما التراضي البسيط والتراضي بعد الاستشارة، ذلك أن الحالات التي يمكن فيها اللجوء إلى التراضي البسيط تختلف عن تلك التي يمكن فيها اللجوء إلى التراضي بعد الاستشارة، وفي اختيارها لأحد هذين الأسلوبين، فإنه يقع على المصلحة المتعاقدة مسؤولية تبرير ذلك أمام هيئات الرقابة.
أ ـ التراضي البسيط: إن التراضي البسيط هو إجراء تخصيص صفقة لمتعامل متعاقد دون الدعوة الشكلية إلى المنافسة، وتلجأ إليه المصلحة المتعاقدة في حالات محددة على سبيل الحصر وهي [13] :
- عندما لا يمكن تنفيذ الخدمات إلا على يد متعامل اقتصادي وحيد يحتل وضعية احتكارية، أو لحماية حقوق حصرية أو لاعتبارات تقنية أو لاعتبارات ثقافية وفنية، وتوضح الخدمات المعنية بالاعتبارات الثقافية والفنية بموجب قرار مشترك بين الوزير المكلف بالثقافة والوزير المكلف بالمالية.
- في حالة الاستعجال الملح المعلل بوجود خطر يهدد استثمارا أو ملكا للمصلحة المتعاقدة أو الأمن العمومي أو بخطر داهم يتعرض له ملك أو استثمار قد تجسد في الميدان، ولا يسعه التكيف مع آجال إجراءات إبرام الصفقات العمومية، بشرط أنه لم يمن في وسع المصلحة المتعاقدة توقع الظروف المسببة لحالة الاستعجال، وأن لا تكون نتيجة مناورات للمماطلة من طرفها.
- في حالة تموين مستعجل مخصص لضمان توفير حاجات السكان الأساسية، بشرط أن الظروف التي استوجبت هذا الاستعجال لم تكن متوقعة من المصلحة المتعاقدة ولم تكن نتيجة مناورات للمماطلة من طرفها.
- عندما يتعلق الأمر بمشروع ذي أولوية وذي أهمية وطنية يكتسي طابعا استعجاليا، بشرط أن الظروف التي استوجبت هذا الاستعجال لم تكن متوقعة من المصلحة المتعاقدة، ولم تكن نتيجة مناورات للمماطلة من طرفها، وفي هذه الحالة يخضع اللجوء إلى هذه الطريقة الاستثنائية لإبرام الصفقات إلى الموافقة المسبقة من مجلس الوزراء، إذا كان مبلغ الصفقة يساوي أو يفوق عشرة مليار دينار جزائري (10.000.000.000 دج) وإلى الموافقة المسبقة أثناء اجتماع الحكومة إذا كان مبلغ الصفقة يقل عن المبلغ السالف ذكره.
- عندما يتعلق الأمر بترقية الانتاج و/أو الأداة الانتاجية الوطنية، وفي هذه الحالة، يجب أن يخضع اللجوء إلى هذه الطريقة الاستثنائية في إبرام الصفقات إلى الموافقة المسبقة من مجلس الوزراء إذا كان مبلغ الصفقة يساوي أو يفوق عشرة مليار دينار جزائري ( 10.000.000.000 دج) وإلى الموافقة المسبقة أثناء اجتماع الحكومة إذا كان مبلغ الصفقة يقل عن المبلغ السالف ذكره.
- عندما يمنح نص تشريعي أو تنظيمي مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري حقا حصريا للقيام بمهمة الخدمة العمومية، أو عندما تنجز هذه المؤسسة كل نشاطها مع الهيئات والادارات العمومية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري.
ب ـ التراضي بعد الاستشارة: التراضي بعد الاستشارة هو إجراء كذلك يهدف إلى إبرام الصفقة العمومية مع متعامل متعاقد دون الدعوة إلى المنافسة، غير أنه يختلف عن التراضي البسيط في كونه يقوم على أساس تنظيم استشارة يتم تنظيمها حسب الحالة، بموجب رسالة استشارة ودفتر شروط محدد لهذا الغرض[14]، ففي حالة الاستشارة الناجمة عن عدم جدوى طلب العروض، تقوم المصلحة المتعاقدة باستشارة جميع المؤسسات التي شاركت في طلب العروض الأول والثاني، وإن اقتضى الأمر فإنه يمكنها توسيع الاستشارة لتشمل مؤسسات أخرى عن طريق الإعلان عن الاستشارة،
وأما في الحالات الأخرى المذكورة أدناه، فإنه يمكنها استشارة المؤسسات من خلال بطاقية المتعاملين الاقتصاديين والتي يتم تأسيسها لهذا الغرض، تطبيقا لأحكام المادة 58 من قانون الصفقات العمومية، علاوة على ذلك يمكن للمصلحة المتعاقدة أن تطلب من المتعاملين الذين تم استشارتهم تقديم توضيحات بشأن عروضهم، كما يمكنها كذلك إجراء مفاوضات حول شروط تنفيذ الصفقة حسب الكيفيات المنصوص عليها قانونا[15].
أما بالنسبة للحالات التي يمكن فيها اللجوء إلى التراضي بعد الاستشارة، فهي كذلك محددة على سبيل الحصر بموجب قانون الصفقات العمومية وهي كالتالي[16] :
- في حالة عدم جدوى طلب العروض للمرة الثانية.
- في حالة صفقات الدراسات واللوازم والخدمات الخاصة التي لا تستلزم طبيعتها اللجوء إلى طلب العروض، وتحدد خصوصية هذه الصفقات بموضوعها أو بضعف مستوى المنافسة أو بالطابع السري للخدمات.
- في حالة صفقات الأشغال التابعة مباشرة للمؤسسات العمومية السيادية في الدولة.
- في حالة الصفقات الممنوحة التي كانت محل فسخ، وكانت طبيعتها لا تتلاءم مع آجال طلب عروض جديد.
- في حالة العمليات المنجزة، في إطار استراتيجية التعاون الحكومي، أو في إطار اتفاقات ثنائية تتعلق بالتمويلات الامتيازية وتحويل الديون إلى مشاريع تنموية أو هبات، عندما تنص اتفاقات التمويل المذكورة على ذلك، وفي هذه الحالة يمكن للمصلحة المتعاقدة أن تحصر الاستشارة في مؤسسات البلد المعني فقط في الحالة الأولى أو البلد المقدم للأموال في الحالات الأخرى.
[1]- ينبغي أن نشير في هذا الإطار إلى الجدل الفقهي القائم بشأن سلطة الإدارة في اللجوء إلى تعديل العقد بإرادتها المنفردة، فهناك اتجاه ينكر حق الإدارة في تعديل بنود العقد حفاظا على القوة الإلزامية للعقد ( النظرية السلبية)، ويتزعمهم الفقيهان l’huillier و Benoit واتجاه آخر يؤيد حق الإدارة في تعديل بنود العقد بإرادتها المنفردة تحقيقا للمصلحة العامة وحفاظا على استمرارية نشاط المرافق العامة ( النظرية الإيجابية)، ويتزعم هذا الاتجاه كل من الفقيه Hauriou و Delaubadaire، وهناك اتجاه ثالث توفيقي بين الاتجاهين السابقين يجيز للإدارة تعديل بنود العقد بإرادتها المنفردة، لكن لا ينبغي أن يشمل جميع البنود بل يقتصر على الجانب التنظيمي فقط للعقد ويتزعم هذا الاتجاه الفقيه G.jeze .
[2]- لا يقتصر إبرام العقود الإدارية في تشريعات بعض الدول العربية على طلب العروض والتراضي فقط، بل يشمل كذلك المناقصة كأسلوب مستقل بذاته عن الأساليب الأخرى، وأما في التشريع الجزائري فقد استعمل مصطلح " المناقصة " في نصوص سابقة بنفس معنى "طلب العروض " الوارد في المرسوم الرئاسي 15-247 الساري حاليا، وبالرغم من التقارب الموجود بينهما إلا أنهما يختلفان، والقانون الوحيد الذي أشار بوضوح إلى هذا الاختلاف هو الأمر رقم 67-90 السالف ذكره، حيث اعتبر في المادة 32 بأن المناقصة هي طريقة لإبرام الصفقات التي تتضمن توريدات بسيطة من النموذج العادي، كما تضمن هذا الأمر أحكاما عديدة ( المواد من 32 إلى 41) تتعلق بتنظيم المناقصة، وأما طلب العروض فيتم اللجوء إليه في الصفقات التي تتطلب مؤهلات تقنية ومالية كافية لتنفيذها، وفي هذا النوع من الصفقات لا تقتصر المصلحة المتعاقدة على اختيار العرض الأقل تكلفة كما هو الحال في المناقصة، إنما ينبغي مراعاة عناصر أخرى مثل الضمانات المهنية والمالية للمتعامل المتعاقد وآجال الإنجاز ( المادة 49)، وقد تمت معالجة هذا الجانب في أحكام المواد من 42 إلى 59، وتمت معالجة أسلوب التراضي في المواد 60 إلى 63.
[3]- بالرجوع إلى النصوص السابقة المتعلقة بالصفقات العمومية، نلاحظ أنها كانت تستعمل مصطلح "المناقصة" وتقابلها باللغة الفرنسية عبارة « appel d’offres »، وفي تقديرنا فإن هذا التوظيف باللغة العربية غير سليم وهو ما تم تداركه في المرسوم الرئاسي رقم 15-247 السالف ذكره، باستعماله مصطلح "طلب العروض".
[4]- أنظر المادة 40 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[5]- المادة 43 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[6]- أنظر المادة 44 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[7]- أنظر النقطة الثالثة من المادة 62 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[8]- أنظر المادة 45 من المرسوم لرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[9]- أنظر كذلك المادة 46 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[10]- أنظر المادة 47 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[11]- أنظر المادة 48 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[12]- أنظر المادة 41 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[13]- المادة 49 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.
[14]- يخضع دفتر شروط المسابقة لمصادقة لجنة الصفقات العمومية المختصة.
[15]- أنظر المادة 52 من المرسوم الرئاسي 15-247 السالف ذكره.