المبحث الأول مفهوم المنظمات الدولية

      تعد ظاهرة التنظيم الدولي من اعمق التغيرات التي طرأت في الآونة الأخيرة على المجتمع الدولي ،فهذا المجتمع الذي كان يتكون من دولة مستقلة ، منعزلة متنافرة، لا تتعاون مع غيرها إلا عند الضرورة ، قد تحول الآن بفضل المنظمات الدولية إلى مجتمع جديد يسعى إلى التكامل والتفاهم والتلاحم ويتحمل ما يمكن  من التضحيات في سبيل الصالح الإنساني العام ، وهو الامر الذي يجعل المنظمات الدولية تحظى بأهمية كبيرة في المجتمع الدولي خاصة الذي يتطلب منا من ناحية الأدوار التي أصبحت تقوم بها ، الأمر الذي يتطلب منا التطرق إلى نشأتها في (المطلب الأول)، وتعريفها وخصائصها في ( المطلب الثاني)، وكذا بيان أهدافها وأدوارها في ( المطلب الثالث)، وأخيرا معرفة القانون الواجب التطبيق عليها في (المطلب الرابع)

المطلب الأول

مراحل تطور التنظيم الدولي

إن المنظمات الدولية ليست وليدة اليوم، إنما مر وجودها بعدة مراحل تاريخية ترتب عليها تبلورها وظهورها بالشكل والهيكل المعروفة به الآن ،ومن الثابت أن الدراسة التاريخية لظاهرة ما لا تنبع من فراغ، وإنما هي نتاج مراحل متعاقبة تكون كل منها حلقة من حلقات سلسلة تطورها ،وعموما يمكن تقسيم المراحل التي تم فيها تطور فكرة التنظيم الدولي وظهور المنظمات الدولية إلى ثلاث فترات زمنية نتناولها تباعا في الفروع التالية .

الفرع الأول

تطور التنظيم الدولي قبل 1919

   تعتبر هذه المرحلة سابقة على ظهور فكرة التنظيم الدولي بالمعنى الصحيح ،فلقد نادى عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين قبل 1919 بمشروعات يقصد منها إقامة اتحاد بين الدول المستقلة أو بين الدول الأوروبية، إلا أن واقع العلاقات الدولية لم يستجب إلى هذه المشروعات النظرية ومع ذلك فمن الممكن أن نجد في هذه المرحلة الخطوط الأولية للمحاولات والتجارب التي تطورت فيما بعد وأخذت شكل المنظمات الدولية ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى بعض الأنواع من هذه التجارب :

أولا: المؤتمرات الأوروبية:

الملاحظ أن الدول ولا سيما الأوروبية منها لجأت وكوسيلة أولى لعقد المؤتمرات الدولية لحل منازعاتها،فلقد نبهت الحروب الأوروبية دول أوروبا \إلى ظرورة التعاون فيما بينها لحفظ السلام على أساس من توازن القوى، فجرت عادتها على أن تعقد في أعقاب هذه الحروب مؤتمرات لوضع معاهدات الصلح ولتنظيم خريطة العالم ،وربما لأن هذه المؤتمرات كانت وسيلة للتفاوض المباشر ومواجهة بعضها ببعض.

    واتسع نطاق عقد هذه المؤتمرات بعد انتصار القوى العظمى آنذاك (إنجلترا،بروسيا، النمسا،روسيا) على نابليون عام 1815م. حيث عقد مؤتمر وستفاليا سنة 1648[1] ومؤتمر شاتيون سنة 1814 ومؤتمر فينا سنة 1815، ومؤتمر صلح باريس سنة 1856[2].

ولقد ظهرت في هذه المؤتمرات أهمية إيجاد سياسة دولية وتشريع دولي، كما نشأت فكرة إشراف الدول الأوروبية الكبرى على الأمن والسلام وعلى العلاقات الدولية بصفة عامة ،مما أخل بفكرة المساواة بين الدول ،ومع ذلك فقد كانت هذه المؤتمرات الإطار المعتاد الذي كانت تمارس فيه ما يمكن تسميته "بالدبلوماسية متعددة الأطراف"، والتي كانت تهدف إلى حل المشكلات التي واجهت الدول أنذاك ،ويمكن أن نذكر في هذا الخصوص أيضا ما يعرف "بالوفاق الأوروبي"، والذي تميز بملامح عدة ،فقد كان نظاما محدود العضوية، إذ \كان مقصورا على الدول الكبرى الموجودة أنذاك، كما أنه استهدف الإبقاء على الوضع الذي كان سائدا في أوروبا استنادا إلى مبدأي الشرعية وتوازن القوى، ومع احتفاظ كل دولة بسيادتها كاملة غير منقوصة، دون وجود أي تعهد رسمي بعدم اللجوء إلى القوة أو سلامة أراضي كل دولة[3].

    كما هدف نظام الوفاق الأوروبي إلى حل النزاعات بالطرق السلمية والتعهد بتقديم حلول سياسية وقضائية للمنازعات ،غير أنه يلجأ إلى اتخاذ إجراءات عسكرية عند الضرورة، كما أنه لعب دورا كبيرا في تنظيم العلاقات بين الدول الأوروبية ومنع نشوب الحرب في القارة الأوروبية منذ تأسيسه إلى غاية إندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 .

ثانيا: إتحاد الدول الأمريكية:

     نتيجة التقارب الحاصل بين الدول الأمريكية والذي يرجع إلى العديد من العوامل كالتاريخ المشترك والتجاور الجغرافي والنضال ضد المستعمرين الأوروبيين والخوف المشترك من التدخل الأوروبي \في شؤونها ومساعدة اسبانيا على إسترداد مستعمراتها ،ظهرت تكتلات أمريكية تعو إلى تكتل دول قارتي أمريكا، الأمر الذي أدى إلى ظهور تصريح "جيمس مونرو" عام 1923 الذي كان له الأثر العظيم في السياسة الدولية وفي تطور العلاقات بين أوروبا وأمريكا، وقد تضمن هذا التصريح عدة مبادئ أهمها حق الدول الأمريكية في الإستقلال وعدم السماح لأية دولة أوروبية بالتدخل في شؤون الدول الأمريكية واحتلال أي جزء منها[4].

وظهر التقارب بين الدول الأمريكية على صورة مؤتمرات دورية عقد أولها سنة 1899، كما أنشأ مكتب تجاري للجمهوريات الأمريكية، وفي المؤتمر الأمريكي الذي عقد سنة 1912 أطلق على المكتب اسم الإتحاد الأمريكي،وعهد إليه بمهمة تحضير أعمال المؤتمرات الأمريكية[5]

 ثالثاً: اللجان النهرية الدولية

    يعد انشاء هذه اللجان خطوة مهمة في طريق انشاء المنظمات الدولية، ويذهب جانب من الفقه، إلى أن هذه اللجان لم تنشأ إلا كوسيلة لتعزيز وضمان حرية الملاحة في بعض الأنهار  مثل لجنة الراين التي أنشأت سنة 1814، ولجنة الدانوب التي أنشأت سنة 1856[6].

    ونتيجة لنجاح اللجنتين المذكورتين في أداء المهام المسندة اليهما، فقد امتد نشاطها ليشمل ميادين أخرى، كميدان الصحة، فقد انشئت لجان صحية في الاقاليم المستعمرة، كلجنة قسطنطينية وبوخارست، كما أنشأت لجان مالية مهمتها التوثيق والتقريب في وجهات نظر الدول الدائنة والمدينة، كوسيلة للوصول الى حل وسط يرضي الطرفين، ومن بين هذه اللجان لجنة الدين المصري سنو 1878، ولجنة الدين اليوناني سنة 1897، ولجنة الدين العثماني سنة 1898[7].

 رابعاً: الاتحادات الدولية الادارية

      وهي أنظمة دولية أنشأت بموجب إتفاقيات دولية لتحقق بطريقة منظمة سد حاجات دولية معينة نشأت نتيجة لنمو العلاقات والمبادلات الدولية، وتمارس هذه الإتحادات عملها عن طريق تنسيق علاقات الدول الأعضاء فيها بشكل يحقق المصالح المشتركة ويؤدي إلى استفادة كل عضو من إمكانيات الآخرين.

    والملاحظ أن إنشاء هذه الاتحادات لم يكن إلا وسيلة لتنظيم بعض المرافق ذات الصلة بالمصالح الدولية المشتركة.

ومن بين اهم الاتحادات التي تم انشاؤها، اتحاد التلغراف العالمي الذي أنشئ بمقتضى اتفاقية باريس لسنة 1865، واتحاد البريد العالمي الذي أنشئ باتفاقية برلين لسنة 1874، والاتحاد الدولي للمقاييس والموازين عام 1875، واتحاد حماية الملكية الصناعية عام 1882، والاتحاد الدولي لنشر التعريفة الجمركية لعام 1890واتحاد حماية الملكية الادبية المنشئ بموجب اتفاقية برن لسنة 1886[8]،والواقع أن كل وسائل التعاون الدولي آنفة الذكر لا يمكن وصفها بالمنظمات الدولية، كونها لا تتخذ طابع الديمومة والاستقرار في عملها كما لا يحكم نشاطها دستور نافذ في مواجهة الدول المنضمة إليها، هذه اضافة الى ان مقرراتها لم تكن لتلزم الدول الأعضاء إلا بإرادتها إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال عدم جدواها، فتلك المحاولات حققت خطوات متقدمة في مجال التنظيم الدولي، الامر الذي مهد لقيام اول تنظيم دولي في أعقاب الحرب العالمية الأولى (عصبة الأمم).

خامسا: التحكيم الدولي:

     يعد التحكيم واحداً من أهم وسائل تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وقد كان لنجاح التحكيم في قضية الألباما سنة 1872 عاملاً مشجعاً للاتجاه نحو هذا الاسلوب في تسوية المنازعات[9].

    والجدير بالذكر ان مؤتمري لاهاي لسنة (1899 و1907) كانا قد أقرى مبدأ التحكيم الاجباري ووضعا قواعد وإجراءات التحكيم إلا أنهما فشلا في إنشاء محكمة تنظر في منازعات الدول.

 والواقع أن محكمة التحكيم الدائمة التي تم انشاؤها في سنة 1899 لم تكن إلا مجرد قائمة بأسماء القضاة الذين يمكن اختيارهم كمحكمين متى اتفقت الدول أطراف النزاع على اللجوء اليها[10]، ولا بد من التذكير بان عقد مؤتمري لاهاي (1899-1907) كان له دلالته الخاصة حيث عقد هذين المؤتمرين في فترات السلم، على عكس ما كان سائداً في عقد المؤتمرات الدولية، حيث لم تكن هذه المؤتمرات تعقد إلا في أعقاب الحروب، لتسوية الآثار المترتبة عليها، كما ضمّ هذين المؤتمرين دولاً أخرى غير أوروبية الامر الذي كان يعني اتساع قاعدة المساهمة في تلك المؤتمرات.

الفرع الثاني

تطور التنظيم الدولي خلال مرحلة ما بين الحربين

تتميز هذه المرحلة بظهور أول محاولة لإنشاء منظمة دولية عالمية لها صفة سياسية وهي عصبة الأمم .

فقد شعر العالم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها قرابة الثمان ملايين من البشر ان الوقت قد حان لوضع حد لهذه المجازر البشرية من خلال اقامة هيئة دولية دائمة تعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين.

    ومن الثابت أنه عقب إنتهاء الحرب العالمية الأولى اختلفت الدول حول طبيعة المنظمة المقترحة، وكانت هناك فكرتان سائدتان[11].

*الفكرة الأوروبية: وهي تنادي بوجوب تكوين المنظمة الدولية على نمط التنظيم السياسي للدولة الإتحادية ، بحث تمنح المنظمة سلطات ذاتية واسعة، وتوضع تحت تصرفها وسائل التنفيذ والجبر، وقد حملت فرنسا لواء الدفاع عن هذه الفكرة في مؤتمر صلح 1919 .

*الفكرة الأنجلوساكسونية : ومبناها الإكتفاء بإنشاء منظمة دولية لا تمنح اختصاصات مشابهة لإختصاصات الدولة الإتحادية ولا توضع تحت تصرفها وسائل قمع أو قهر، وإنما تعتمد المنظمة المقترحة في تدعيم السلم والتعاون الدولي على تأييد الرأي العام وعلى ما لها من نفوذ أدبي ومعنوي .

وقد تغلبت الفكرة الثانية في مؤتمر الصلح وتولت لجنة مشتركة إنجليزية أمريكية سميت لجنة "هيرست ميلر"وضع مشروع عصبة الأمم الذي أقره مؤتمر فيرساي بتاريخ 28 أفريل 1919 وأدمج ميثاق عصبة الأمم في صدر معاهدات الصلح التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى وهو يرمي عن طريق إنشاء العصبة إلى استتباد السلم والأمن الدولي وتشجيع التعاون بين الدول .

أما عن المبادئ والأهداف التي ترتكز عليها العصبة فلم يأت تأسيس عصبة الأمم إلا كرد فعل على الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى فقد أحس العالم أنه بحاجة الى تنظيم دولي دائم يعمل على فض المنازعات بالطرق السلمية ويحافظ على سيادة الدول بعيداً عن استخدام القوة والعنف، وجاء التأكيد على هذه الاهداف في العديد من النصوص من بينها المادة العاشرة من العهد، التي التزمت الدول بالتعهد باحترام الاستقلال السياسي والسيادة الاقليمية لكل دولة.

     وتأكيداً لهذا الالتزام أشارت المادة الحادية عشرة لمبدأ المسؤولية الجماعية لدول العصبة إزاء كل ما يقع في المجتمع الدولي من حرب أو تهديد بالحرب، ولكي تنأ العصبة بالعالم عن الحرب وآثارها، ألزمت الدول الأعضاء بالتعهد بعرض نزاعاتها التي من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين على التحكيم او التسوية القضائية أو إحالتها على مجلس العصبة.

     كما ألزمت الدول الأعضاء بعدم إثارة الحرب قبل انقضاء ثلاثة أشهر على صدور أحكام في هذه المنازعات من لجان التحكيم او لجان التسوية القضائية أو من مجلس العصبة.

    ولإضفاء الجدية على التعهدات التي تلتزم بها الدول الأعضاء في العصبة، فقد نصت المادة السادسة عشرة على أنه (إذا التجأت احدى الدول الاعضاء في العصبة إلى الحرب متجاهلة بذلك تعهداتها تحت المواد14،13،12 من عهد العصبة، فإن هذا العمل العدواني كان ينظر إليه على أنه موجه ضد كل الدول الأعضاء في العصبة بلا استثناء).

    وقد خول العهد، الدول الاعضاء ازاء ذلك صلاحية قطع العلاقات المالية والتجارية والاقتصادية، كما خول مجلس العصبة حق اقتراح ما يراه فعالاً من التدابير العسكرية البرية والبحرية والجوية التي من شأنها رد العدوان.

    وكإجراء وقائي أخير نص العهد على إنهاء عضوية أي دولة تثبت عليها مسؤولية الإخلال بالتزاماتها نحو العصبة، وتنهى هذه العضوية بقرار يصدر عن مجلس العصبة.

ويتكون هيكل العصبة من فروع ثلاثة تتمثل في الجمعية وهي الفرع العام الذي يضم كل الدول الأعضاء والمجلس وهو الفرع محدود العضوية، إذ يشمل عددا من الأعضاء الدائمين وعددا من الأعضاء غير الدائمين تنتخبهم الجمعية لمدة محددة، وأخيرا السكرتارية وتقوم بوظيفة الجهاز الإداري ويتولى الإشراف عليها سكرتير عام يعينه المجلس بالإجماع[12].

 مثلت عصبة الأمم النواة الحقيقية الأولى للمنظمات الدولية بمفهومها الصحيح، ونجحت هذه المنظمة ولو بصورة نسبية في تحقيق بعض الأهداف التي جاء النص عليها في العهد، إلا أنها كانت منظمة غير فعالة  وقف وراء فشلها عدّة أسباب:

1- عدم تحديد اختصاصات الجمعية العامة ومجلس العصبة على وجه الدقة، الامر الذي ادى الى تراخي الهيئات المذكورة في أداء المهام المناطة بها، والذي انعكس سلباً على نشاط المنظمة بصفة عامة.

2- تأثر القرارات الصادرة عن العصبة باتجاهات ورغبات ومصالح القوى العظمى آنذاك، والتي هي ذاتها القوى التي سعت إلى إنشائها وأشرفت على وضع ميثاقها، كبريطانيا وفرنسا، الأمر الذي خلق فجوة كبيرة بين هذه القوى وباقي الدول الأعضاء أو بعضها على الأقل كألمانيا وايطاليا واليابان.

3- لم يحرّم ميثاق العصبة الحرب كوسيلة لحل المشكلات الدولية، على الرغم من أنه سعى الى الحد من اللجوء إليها، فالمادة الثانية عشرة من العهد تنص على أنه (لا يجوز شن الحرب قبل مضي ثلاثة أشهر من اتخاذ أحد أو بعض إجراءات التسوية السلمية للنزاع، كما أنها تحضر إعلان الحرب على دولة قبلت قرارات التحكيم أو القضاء أو التزمت بقرار المجلس الصادر بالإجماع ولو بعد مضي ثلاثة أشهر).

4- اشتراط ميثاق العصبة صدور قرارات الجمعية العامة ومجلس العصبة بالإجماع، الأمر الذي أدى إلى شل نشاط العصبة وحدّ من قدراتها على اتخاذ القرارات في المسائل المعروضة عليها  فأي قرار لا يصدر متى اعترضت عليه إحدى الدول ولم يستثنِ ميثاق العصبة من قاعدة الإجماع إلا المسائل الإجرائية والإقتراع على دخول عضو جديد، والفصل في نزاع دولي، حيث ليس لأطراف النزاع الاشتراك في التصويت على القرار الصادر بشأن هذا النزاع.

5- تردد العصبة في اتخاذ قرارات ومواقف حازمة تجاه انتهاكات بعض الدول، لميثاق العصبة وتهديدها للأمن والسلم الدوليين، الأمر الذي انتهى إلى إشعال نار الحرب العالمية الثانية.

6- عملت العصبة في ظل أجواء يسودها التناقض والتنافر بين الدول المنتصرة والمنهزمة في الحرب العالمية الأولى، بين الدول الراغبة في المحافظة على الوضع الراهن، وتلك الراغبة في مراجعة وتعديل بعض المعاهدات المبرمة، بين الدول الاستعمارية التي لا تحترم القواعد الدولية وتلك التي تنحو نحو السلم في علاقاتها الودية.

7- خولت المادة الثامنة من العهد العصبة صلاحية فرض الرقابة على برامج تسليح الدول الاعضاء فيها، الا ان معالجة العهد لهذه المسألة كانت معالجة مبسترة، فقد أوردت المادة الثامنة تعابير عامة تفسح المجال واسعاً أمام الدول للتحايل على أحكامها، فهي منحت الدول الأعضاء حق التسلح بما يؤمّن لها المحافظة على امنها واستقلالها، والواقع أنه لا يوجد معيار محدد منضبط لمعرفة القدرة التسليحية التي من شأنها المحافظة على امن الدولة واستقلالها، هذا من جانب، ومن جانب آخر أن ذات النص يشير الى برامج التسلح المقترحة من قبل العصبة تعرض على الدول الاعضاء كل فيما يخصها، ولا تعد هذه البرامج ملزمة للدول إلا إذا أقرتها، على ذلك أن هذه البرامج لا تلزم الدول إلا بإرادتها، الأمر الذي يفقد النص فحواه وجدواه في ذات الوقت.

8- عدم انضمام بعض مراكز القوى كالولايات المتحدة للعصبة، وانسحاب اخرى منها كألمانيا واليابان، الأمر الذي انعكس سلباً على نشاط المنظمة وهيبتها، إذ بدت حتى الدول الأعضاء مترددة في عرض نزاعاتها على العصبة، لاعتقادها بان العصبة غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة.

9- افتقار العصبة لأداة تنفيذية (قوة عسكرية) تمكنها من أداء المهام المناطة بها، فمن المسلّم به أن امتلاك القوة العسكرية من قبل أي منظمة دولية تأخذ على عاتقها مهمة المحافظة على السلم والأمن الدوليين أمر لا غنى عنه.

    والواقع ان المآخذ المسجلة على العصبة أمر غير مستغرب على تجربة جديدة، فكل تجربة حديثة تسجل لها ايجابيات وعليها سلبيات، والسلبيات المسجلة على العصبة لا يعني أنها فشلت تمام في أداء المهام المسندة إليها، فالعصبة نجحت في أنجاز بعض مهامها ولكن بدرجة أقل مما كان متوقعا لها

الفرع الثالث

تطور التنظيم الدولي منذ سنة 1945 حتى الآن

كانت تجربة التنظيم الدولي في المرحلة السابقة تجربة مريرة أحاطها الفشل من نواحي مختلفة، فقد عجزت عصبة الأمم عن المحافظة على السلام وعن القيام بأهم الواجبات المنصوص عليها في العهد، فأخفقت في ميدان خفظ التسلح وفي حماية استقلال الدول،كما فشلت في تحقيق أهم مطلب وهو منع الحرب وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية .

ولقد كان طبيعيا أن ترتفع الأصوات منادية منذ بداية الحرب العالمية الثانية بوجوب العمل على منع تكرار تلك الكارثة الكبرى ،وتتابعت الجهود الرامية إلى تأسيس هيئة دولية تعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين وتستهدف تجنيب العالم ويلات الحروب .

    وبعد جهود كبيرة نجح المجتمع الدولي في إنشاء المنظمة العالمية التي قصد من إنشائها أن تكون القوة السياسية الأساسية في المجتمع الدولي وأن تعمل على تحقيق الأمن والسلم الدوليين وأطلق على الهيئة الجديدة اسم الأمم المتحدة[13] .

    وتعتبر الأمم المتحدة وفقا لنصوص ميثاقها المحور الذي تدور حوله سائر المنظمات والهيئات الدولية، وقد أقام ميثاق الأمم المتحدة تنظيما دوليا عالميا متكاملا، لم يقتصر على القضايا المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين، بل تجاوزها يتناول التعاون الدولي في القضايا الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والإنسانية، إيذانا منه بتهيئة المناخ السليم الذي من خلاله يمكن أن يتوطد في رحابه السلم الدولي . 

 ومن ناحية أخرى فقد بدأت تنتشر منظمات إقليمية أخرى في مختلف قارات العالم، كما أدى الدور العلمي إلى نشأة العديد من المنظمات الدولية المتخصصة كالوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة اليونيسكو وغيرها .

    وهكذا صارت المنظمات الدولية ظاهرة هامة تغطي كافة أوجه النشاط البشري في المجالات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية... ،حتى أنه يمكن أن نسمي العصر الذي نعيش فيه بعصر التنظيم الدولي .

 

 



[1]

Gross Leo , (The Peace Of  Westphalia , 1648 -1948) , A.J.I.L, Vol 53, 1959, pp1-29

[2] محمد حافظ غانم ، المنظمات الدولية – دراسة لنظرية التنظيم الدولي لأهم المنظمات الدولية - ، الطبعة 3 ، مطبعة النهضة الجديدة ، القاهرة ، 1967 ، ص 29

[3] أحمد أبو الوفا، الوسيط في قانون المنظمات الدولية ، ط5 ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1998، ص 21

[4]

Charles Rrousseau ,  Droit International  Public  , Tome4 , Sirey ,Paris, 1980 ,pp 53-111

[5] محمد حافظ غانم ، المرجع السابق ، ص 31

[6]جمال عبد الناصر مانع ، التنظيم الدولي – النظرية العامة والمنظمات العالمية والإقليمية والمتخصصة - ، دار العلوم

  للنشر ، 2006 ،ص 21

[7] جعفر عبد السلام ، المنظمات الدولية – دراسة فقهية وتأصيلية للنظرية العامة للتنظيم الدولي وللأمم المتحدة والوكالات المتخصصة والمنظمات الإقليمية ، ط 6 ، دار النهضىة العربية، القاهرة ، د س ن ، ص 24،25

[8] محمد حافظ غانم ، المرجع السابق، ص 23

[9] أحمد أبو الوفا ، الوسيط في المنظمات الدولية، المرجع السابق، ص 22

[10] وائل أحمد علام ، المنظمات الدولية – النظرية العامة - ، د د ن ، د م ن ، 1994، ص 32،33

[11] محمد حافظ غانم ، المرجع السابق، ص 35

[12]  جعفر عبد السلام ، المرجع السابق، ص ص 173-179

 

[13] سيأتي الحديث عنها في دراسة تفصيلية لاحقا .