المبحث الأول الشخصية القانونية للمنظمات الدولية
تقثوم القواعد القانونية في ظل نظام قانوني معين بترتيب الحقوق وفرض الالتزامات ، ويسمى شخصا قانونيا من تخاطبه تلك القواعد القانونية، ومن الثابت أن الشخصية القانونية ليست إلا مجرد حيلة قانونية ، فهي تمثل أداة يمنح بموجبها نظام قانوني معين بعض الحقوق إلى كائن ما ويلزمه ببعض الواجبات[1].
وقد ثار جدل كبير حول مدى تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية قبل أن يتم الفصل بضورة تمتعها بها الأمر الذي يتطلب منا الوقوف على مختلف الآراء والتوجهات فبي هذا الشأن في المطلب الأول، ولا شك أن أي منظمة حتى تكتسب الشخصية القانونية الدولية لابد لها من شروط ،كما يترتب على ذلك الإكتساب نتائج وهذا ما سنعالجه في المطلب الثاني.
المطلب الأول الخلاف الفقهي حول مدى تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية
سدى لدى الفقه التقليدي تصور مفاده أن الشخصية الدولية لا تثبت إلا للدول، بيد أن تطور الحياة الدولية أفضى بلا نزاع إلى اهتزاز الإعتقاد الذي رسخ في ذهن الفكر التقليدي إذ ظهر في المجتمع الدولي أنماط جديدة من الوحدات (المنظمات الدولية) التي اختلف الفقه الدولي في شأن مكنة تمتعها بالشخصية الدولية أسوة بالدولن فانقسمت الآراء في هذا الصدد بين مؤيد ومعارض لتفصل محكمة العدل الدولية فشي مدى تمتع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية الدولية.
الفرع الأول
منكرو تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية
ينكر جانب من الفقه الدولي تمتع المنظمة الدولية بوصف الشخصية القانونية الدولية ولا يقرون إلا للدول وحدها بهذا الوصف ، وقد قيلت في هذا الصدد عدة تبريرات نذكر منهيا:
*استحالة إنشاء شخص قانوني بمقتضى اتفاق دولي :
وتقوم هذه النظرية على أساس أن القانون الدولي ينظم العلاقات بين الدول ويترتب على ذلك أن العمل القانوني الدولي لا يستطيع إلا إنشاء الحقوق والالتزامات بين الدول، وعلى ذلك فإن المعاهدة التي تنشئ منظمة دولية لا تنشئ فيما بين الدول المؤسسين إلا الالتزامات المتبادلة خاصة بالمساهمة في إنشاء هذه المنظمة، ولكن لا يترتب عليها قيام شخص قانوني دولي جديد ، لأن هذه السلطة تتجاوز بصورة مطلقة اختصاصات .
ويرجع فشل هذه النظرية إلى عدم تمكن أنصارها من تحديد النظام القانوني الذي تخضع له المنظمات الدولية[1].
كما يرى أصحاب هذا الاتجاه أيضا أن القانون الدولي يخاطب الدول وحدها باعتبارها الشخص القانوني الدولي الوحيد الذي يتمتع بالشخصية القانونية الدولية، وأن المنظمة الدولية مجرد كائن دولي لا يرقى لمرتبة الدولة من حيث التمتع بتلك الشخصية، كما أن الدول سابقة في وجودها للقانون الدولي، أما المنظمات الدولية فتستند في وجودها على نص في القانون تتفق عليه جماعة الدول وحياتها ترتبط بهذا النص وتخضع لإرادة هذه الجماعة .
غير أن هذا الرأي مردود عليه، فليست كل هذه الدول سابقة في وجودها على القانون الدولي فبعض الدول كانت لاحقة في وجودها عليه ومع ذلك تتمتع بالشخصية القانونية الدولية، مما يفترض أن تتمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية .
-كما يرى أصحاب هذا الاتجاه أن المنظمة الدولية لا تتمتع باستقلال مالي اتجاه الدول أعضائهابل تتكون ميزانيتها من إشتراكات من أنصبة تلك الدول، ومن ناحية أخرى فغن المنظمات الدولية ليست سوى أجهزة مشتركة للدول التي أنشأتها، فالدول عندما تصطدم بمواجهة بعض المشاكل الفنية، أو ضرورة إدارة بعض الأمور أو المرافق العامة الدولية تقوم بإنشاء عدد من الأجهزة، وهذه الأجهزة بحكم نشأتها تخضع كلية في مباشرتها لنشاطها للدول التي أنشأتها، وليست سوى تعبير عن إرادة ورغبة هذه الدول.
وإزاء الإنتقادات التي وجهت للآراء سالفة الذكر توسط جانب من الفقه فأنكر على المنظمة تمتعها بالشخصية الدولية ، ولكنه أصبغ عليها وصف الأهلية الدولية وفي ذلك يقرر:"الشائع في الفقه الدولي اعتبار الهيئات الدولية التي لها كيان مستقل من أشخاص القانون الدولي العام ، غير أن في هذا الشائع انحراف بتلك الهيئات عن وضعها الحقيقي وخلط بين الشخصية الدولية والأهلية القانونية ،فهذه الهيئات ولا نزاع يمكن أن تتمتع بالأهلية القانونية اللازمة لقيامها بمهامها، وهي أهلية خاصة ذات طابع دولي بما أنها تعمل في المحيط الدولي ، إنما هذا لا يستتبع حتما اعتبارها من أشخاص القانون الدولي العام ، لأنه لا تلازم حتما بين هذه الأهلية وبين الشخصية الدولية بمفهومها الدقيق، فالدول ناقصة السيادة لا تتمتع في المحيط الدولي بأهلية كاملة ، ولا يحول هذا مع ذلك دون اعتبارها من أشخاص القانون الدولي العام، وليس هذا مركز الهيئات الدولية، فهذه الهيئات ليست محل عناية في القانون لذاتها...فهي لا تخرج عن كونها أداة يستخدمها في تطبيق قواعده على أشخاصه الحقيقيين.
فهذه الهيئات تشغل مكانها في المحيط الدولي بوصفها مؤسسات ذات أهلية قانونية خاصة لا أكثر ولا أقل"[2].
الفرع الثاني
مؤيدو تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية
يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى ضرورة تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية، ونقطة البداية عندهم أن معيار تلك الشخصية يتمثل أساسا في مدى قدرة الوحدة على إنشاء قواعد قانونية دولية،وأن تكون لهذه المنظمة أهلية الوجوب وأهلية الأداء، أي أهلية التمتع بالحقوق وأهلية الإلتزام بالواجبات .
وإزاء ازدهار ظاهرة التنظيم الدولي، والإنتشار المتلاحق للمنظمات الدولية انتشارا متتالياجعل معظم فقهاء القانون الدولي يسلم بالشخصية الدولية للمنظمة الدولية، على اعتبار قدرتها على إنشاء قواعد جديدة ،بالإضافة على قدرتها على التمتع بالحقوق والإلتزام بالواجبات.
-كما يرى هذا الاتجاه أن الشخصية القانونية الدولية للمنظمة الدولية توجد بمجرد تكامل العناصر التي حددها القانون الدولي لتكوين المنظمة، فالمنظمة تتصرف باسم الدولة، إضافة أن شخصية المنظمات الدولية هي شخصية من نوع خاص لأن الدول أنشأت المنظمة الدولية نتيجة التطورات الدولية، فيمكن أن تعتبرذات شخصية قانونية مستقلة عن الدول الأعضاء، وهي تتمتع بأهلية قانونية خاصة تتناسب في اتساع مجالاتها او ضيقها مع الأهداف التي نشأت المنظمة من أجلها ويمكن أن توصف هذه الشخصية بأنها شخصية وظيفية وبأنها محدودة بحدود ومقدار وبطبيعة الوظائف التي تؤديها المنظمة[3].
الفرع الثالث
رأي محكمة العدل الدولية
حسمت محكمة العدل الدولية الخلاف الفقهي سالف الذكر حول مدى تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية الدولية برأي شهير أصدرته في 11 أفريل 1949 اغترفت فيه بالشخصية القانونية للمنظمة الدولية[4].
وقد صدرت الفتوى المتقدمة بمناسبة إصابة بعض العاملين بالأمم المتحدة خلال تأديتهم لمهامهم في خدمة الأمم المتحدة خلال عامي 1947، 1948 ،وكان من أهم هذه الإصابات مقتل"الكونت بيرنادوت" وسيط الأمم المتحدة لتسوية الحرب الفلسطينية، وقد أثير في هذا الصدد تساؤلات أهما :هل من حق الأمم المتحدة رفع دعوى المسؤولية الدولية ضد الدولة المسؤولية عن الأضرار التي أصابت موظفيها .
وعندما عرضت الجمعية العامة هذه المسألة على محكمة العدل الدولية تبين لهذه الأخيرة أن التساؤل السالف يحوي بين طياته ضرورة بحث مدى تمتع الأمم المتحدة بالشخصية القانونية ونطاق هذه الشخصية.
ولقد انتهت المحكمة في فتواها إلى أن الأشخاص في نظام قانوني معين ليسوا بالضرورة متساوين في طبيعتهم أو في طبيعة حقوقهم إذ أن طبيعة ونطاق شخصيتهم يتوقف على حاجة وظروف كل مجتمع ، كما انتهت المحكمة إلى أن الدول ليست وحدها أشخاص القانون الدولي ، بل تتمتع كائنات أخرى غير الدول بهذه الشخصية إذا ما اقتضت الظروف الإعتراف لها بذلك[5].
وخلصت المحكمة إلى تمتع المنظمات الدولية بالشخصية الدولية، وبالتالي حقها في تحريك دعوى المسؤولية في حالة إصابة أحد العاملين بها بأضرار نتيجة قائمة بخدمتها، فضلا عن حق المنظمة في تطبيق شخصيتها القانونية داخل أقاليم الدول الأعضاء من خلال حق البيع وإبرام العقود .
وجدير بالذكر أن غالبية المعاهدات المنشئة للمنظمات الدولية تتضمن نصوصا تكفل تمتع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية في مواجهة النظم القانونية الوطنية لكل دولة عضو، ونتيجة لذلك فإن من حق المنظمات الدولية أن تبرم عقود مختلفة كتملك العقارات والمنقولات .
ويراعى أن تمتع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية في إطار النظم القانونية الوطنية لا يعني بالضرورة تمتعها بالشخصية القانونية الدولية، والنص الصريح على تمتعها بها قد يرد في القوانين الوطنية للدول الأعضاء في المنظمة وقد لا يرد .
ولقد ذهبت الدراسات التي أجرتها لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة إلى أنه حتى في أحوال عدم النص الصريح على الشخصية القانونية للمنظمة الدولية \في إطار النظم القانونية الوطنية ذاتها، فإن ذلك لا ينفي على المنظمة تمتعها بهذه الشخصية[6].
مع ملاحظة أخيرة، أن الشخصية القانونية الدولية التي تتمتع بها المنظمة الدولية تعتبر شخصية وظيفية، محددة ومقيدة في إطار الوظائف والغايات المخول للمنظمة القيام بها، وهو ما أكدته واعترفت به محكمة العدل الدولية، وكل ما يعنيه ذلك الإعتراف هو اكتساب المنظمة للحقوق وتحملها للالتزامات بالقدر اللازم لممارسة وظائفها على النحو الذي استهدفته الدول الأعضاء من وراء إنشائها.
وتبرز أهمية منح الشخصية القانونية الدولية للمنظمة الدولية من كونها تحدد الوضع القانوني الذي تتمتع به المنظمة الدولية على الصعيد الدولي، كما أنها هي التي تسمح بالمحافظة على وحدة المنظمة خصوصا من قبل الغير، إضافة إلى أن الإعتراف للمنظمة بالشخصية القانونية يعني الاعتراف لها بذاتية قانونية خاصة تجعلها قادرة على أن تقيم لحسابه الخاص علاقات مع غيرها من أشخاص القانون الدولي ، وفي ذات الوقت تجعلها كائنا منفصلا عن الأعضاء .