تعتبر الصفقات العمومية إحدى الوسائل الهامة التي تستخدمها الدولة لتنفيذ البرامج المسطرة في شتى قطاعات التنمية الوطنية، حيث تستهلك هذه العقود سنويا مبالغ مالية ضخمة من ميزانية الدولة والجماعات المحلية، مما يجعلها من أكبر المجالات عرضة لأخطار  الفساد ومختلف التجاوزات المالية، لذلك فقد اتجهت مختلف الدول إلى وضع نظام قانونييحكم هذه الطائفة من العقود، في محاولة للتوفيق بين ضرورة تلبية حاجات المجتمع المتنامية باستمرار والعمل على ترشيد استهلاك المال العام وحمايته من كل أشكال التبديد.

                ولقد عرفت القواعد المنظمة للصفقات العمومية منذ القرن الماضي تطورا كميا ونوعيا مما جعلها ترتقي من مجرد قواعد تقنية متفرقة تستعين بها الإدارة العمومية في أداء مهامها ووظائفها إلى أحكام ومبادئ قانونية تشكل في مجملها نظاما قانونيا يحكم هذه الطائفة من العقود التي تبرمها الإدارة لتلبية حاجاتها، ولقد تحقق ذلك بفعل عدة عوامل سياسية واقتصادية، أهمها ازدياد الوعي لدى الحكام والمحكومين بأن استقرار المعاملات الإدارية يتطلب خضوع الإدارة للقانون، إلى جانب كذلك إدراك مختلف الأطراف الفاعلة في الاقتصاد العالمي بأن التخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه مختلف الشعوب في العالم ليس سببه فقط محدودية مواردها المالية وإنما يرجع كذلك إلى عدم الفعالية في استخدامها، ومن ثم كان لزاما من استخدام هذه الموارد المتاحةبالقدر الذي تحتاجه فعلا الأجهزة العمومية للقيام بمهامها، ضف إلى ذلك زيادة الوعي بضرورة الوقاية من الفساد ومكافحته عن طريق إرساء الشفافية في جميع المعاملات الإدارية. 

ولقد كان لهذه التحولات التي عرفها العالم تأثيرا كبيرا على التشريع الجزائري، إذ عملت الجزائر منذ السنوات الأولى لاستقلالها على وضع نظام قانوني متكامل للصفقات العمومية بغرض تسريع وتيرة التنمية الشاملة، وأولى النصوص القانونية التي صدرت في هذا المجال هو الأمر  رقم 67-90 المؤرخ في 17 جوان 1967، المتعلق بالصفقات العمومية[1]، ولقد صدر هذا الأمر في مرحلة تميزت بالتوجه الكلي نحو تكريس نظام اقتصادي اشتراكي، وهذا ما أنعكس بشكل جلي وواضح على مضمون ومحتوى هذا النص، وبشكل عام فقد اراد المشرع الجزائري من خلال هذا النص جعل الصفقات العمومية أداة فعالة بيد الدولة لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الواردة في مخططات التنمية الوطنية، ولقد عرف خلال فترة تطبيقيه تعديلات كثيرة اقتضتها ظروف تلك المرحلة[2].

وتماشيا مع الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد في مراحل لاحقة، فقد عرف نظام الصفقات العمومية كذلك تطورات مستمرة تضمنتها العديد من النصوص القانونية، في محاولة لتطوير الإطار القانوني والمؤسساتي لهذه العقود وجعله يتماشى مع أهداف السياسة الوطنية وظروف كل مرحلة، حيث شهدت بداية الثمانينات صدور المرسوم رقم 82-145 المؤرخ في 10 أفريل 1982 المتضمن تنظيم صفقات المتعامل العمومي[3]، وتنظيم هذا المجال بواسطة نص تنظيمي فقط يندرج ضمن التوجه السائد في غالبية الدول والذي يعتبر نظام الصفقات العمومية من مجالات التنظيم وليس التشريع، ذلك أن هذه العقود عادة ما تتطلب في إعدادها وتنفيذها السرعة والمرونة لمسايرة التغيرات والتطورات التي تعرفها الحياة الاقتصادية.

مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات عرفت الجزائر تغييرات سياسية واقتصادية جذرية تضمنها دستور سنة 1989، وكان من الضروري مراجعة المنظومة التشريعية والتنظيمية وفق التوجهات السياسية والاقتصادية الجديدة للدولة، وفي ظل هذا المسعى تم إصدار  المرسوم التنفيذي رقم 91-434 المؤرخ في 09 نوفمبر 1991، المتضمن تنظيم الصفقات العمومية[4]، ولقد اقتصر تطبيق أحكام هذا المرسوم على القطاع الاداري للدولة دون قطاعها الاقتصادي،أي بمعنى أن المؤسسات العمومية الاقتصادية أصبحت غير خاضعة لأحكام قانون الصفقات العموميةوهذا تماشيا مع المتطلبات السياسية والاقتصادية لهذه المرحلة.

مع بداية سنة 2000، عرفت الوضعية المالية للدولة تحسنا ملحوظا بسبب ارتفاع مداخيل البترول الأمر الذي ساعد على تسجيل عدد هام من البرامج القطاعية الكبرى، ولقد أدى ذلك إلى زيادة معتبرة في حجم الانفاق العمومي، وبذلك ظهرت الحاجة مرة أخرى إلى مراجعة قانون الصفقات العموميةوتحيينه وفق متطلبات هذه المرحلة الجديدة، وهذا بإرساء قواعد عمل جديدة تتسم بالشفافية والمرونة والمساواة بين القطاعين العام والخاص. وهذا ما أستهدفه المرسوم الرئاسي 02-250 المؤرخ في  24 جويلية 2002[5]، والذي استمر تطبيقه إلى غاية الثلاثي الأخير من سنة 2010، وهي الفترة التي عرفت صدور أحكام جديدة لتنظيم الصفقات العمومية تضمنها المرسوم الرئاسي رقم 10-236 المؤرخ في 07 أكتوبر 2010 [6]، ولقد صدر هذا المرسوم في مرحلة ميزتها أحداث هامة، أبرزها مصادقة الجزائر على الاتفاقياتالدولية المتعلقة بمكافحة ظاهرة الفساد[7]،والتي استدعتاستحداث هيئات متخصصة في هذا المجال، أبرزهاالهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته المنشئة في إطار تطبيق أحكام القانون رقم 06-01 المؤرخ في 20 فيفري 2006 والمتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته[8]، والديوان المركزي لقمع الفساد المنشأ بموجب الأمر رقم 10-05 المؤرخ في 26 أوت 2010[9]، إلى جانب كذلك تنفيذ البرنامج الخماسي للتنمية الوطنية 2010-2014، والذي رصد له مبلغ مالي إجمالي يقدر بحوالي 286 مليار دولار، موجه لاستكمال المشاريع الكبرى الجاري إنجازها وكذلك إنجاز مشاريع أخرى جديدة في مختلف القطاعات[10]، وهو مبلغ مالي ضخم لم يسبق للجزائر  أن بلغته في البرامج التنموية السابقة وهذا منذ الاستقلال.

وتماشيا مع مقتضيات الحكامة الحديثة، عرف نظام الصفقات العمومية تغييرات جديدة أخرى تضمنها المرسوم الرئاسي رقم 15-247 المؤرخ في 16 سبتمبر 2015[11] ، وهذا النص الجديد يعتبر ثمرة تشاور وإثراء بين مختلف القطاعات الوزارية وبمشاركة كذلك ممثلي أرباب العمل، ولقد شمل مجموعة من التدابير التي تعالج عدد من المسائل الهامة والتي سنحاول تسليط الضوء عليها من خلال المحاور الأساسية التالية

-          الفصل الأول: مفهوم الصفقات العمومية والمبادئ التي تحكمها.

-          الفصل الثاني: طرق إبرام الصفقات العمومية.

-          الفصل الثالث: الرقابة على الصفقات العمومية.

                                                                                                                                                                                                   الفصل الرابع: تنفيذ الصفقات العمومية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] ـ صدر هذا الأمر في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية بتاريخ 27 جوان 1967، وقبل صدوره كان نظام الصفقات العمومية في الجزائر يخضع لمجموعة من النصوص الفرنسية والتي تم تمديد سريانها وتطبيقها بموجب القانون الصادر في ديسمبر 1962 المتضمن تمديد سريان القوانين الفرنسية في انتظار صدور نصوص قانونية وطنية، أي بمعنى تطبيق أحكام القانون المؤرخ في 30 أكتوبر 1935 المتعلق بتمويل صفقات الدولة والجماعات المحلية والمرسوم رقم 53-405 المتعلق بصفقات الدولة والمؤسسات الوطنية والمرسوم رقم 57-24 المؤرخ في 08 جانفي 1957 المتعلق بالصفقات المبرمة في الجزائر.

[2] ـ تم تعديل وتكملة  أحكام الأمر  رقم 67-90 المؤرخ في 17 جوان 1967بموجب النصوص التالية:

-           الأمر رقم 69-32 المؤرخ في 22 ماي 1969 المعدل للمادتين 129 و 144.

-           الأمر رقم  70-57 المؤرخ في 06 أوت 1970 المعدل للمادتين 129 و130.

-           الأمر رقم  71-84 المؤرخ في 29 ديسمبر 1971 المعدل للمواد 62-87-89.

-           الأمر رقم 72-12 المؤرخ في 18 أفريل 1972 يتضمن تكملة للأمر 67-90.

-           الأمر  رقم 74-90 المؤرخ في 90 جانفي 1974 يتضمن مراجعة جزئية لأحكام الأمر 67-90.

-          الأمر رقم 76-11 المؤرخ في 20 فيفري 1976يتضمن تعديل الأمر 67-90.

[3]ـ صدر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 15 لسنة 1982، وعرف خلال فترة تطبيقه تعديلات تضمنتها النصوص التالية:

-           المرسوم رقم 84-51 المؤرخ في 25 فيفري 1984.

-           المرسوم رقم 86-126 المؤرخ في 13 ماي 1986.

-           المرسوم رقم 88-72 المؤرخ في 29 مارس 1988.

-           المرسوم التنفيذي رقم 91-320 المؤرخ في 14 سبتمبر 1991.

[4]ـ صدر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 37 لسنة 1991، وتم تعديله خلال فترة تطبيقه بموجب النصوص التالية:

-           المرسوم التنفيذي رقم 94-178 المؤرخ في 26 جوان 1994 (الجريدة الرسمية العدد 42 لسنة 1994).

-           المرسوم التنفيذي رقم 96-54 المؤرخ في 22 جانفي 1996 (الجريدة الرسمية العدد 06 لسنة 1996).

-           المرسوم التنفيذي رقم 98-87 المؤرخ في 07 مارس 1998 (الجريدة الرسمية العدد 13 لسنة 1998).

[5]ـ  صدر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 52 لسنة 2002، ولقد عرف خلال فترة تطبيقه تعديلات تضمنتها النصوص التالية:

-           المرسوم الرئاسي رقم 03-301 المؤرخ في 11 سبتمبر 2003 ( الجريدة الرسمية العدد 55 لسنة 2003).

-           المرسوم الرئاسي رقم 08-338 المؤرخ في  26 اكتوبر 2008 (الجريدة الرسمية العدد 62 لسنة 2008)

[6] ـ صدر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 58 لسنة 2010، وعرف خلال فترة تطبيقه تعديلات تضمنتها النصوص التالية:

-           المرسوم الرئاسي رقم 11-98 المؤرخ في 01 مارس 2011 (الجريدة الرسمية العدد 14 لسنة 2011).

-           المرسوم الرئاسي رقم 11-222 المؤرخ في 16 جوان 2011 ( الجريدة الرسمية العدد 34 لسنة 2001).

-           المرسوم الرئاسي رقم 12-23 المؤرخ في 18 جانفي 2012 (الجريدة الرسمية العدد 04 لسنة 2012).

-           المرسوم الرئاسي رقم 13-03 المؤرخ في 13 جانفي 2013 (الجريدة الرسمية العدد 02 لسنة 2013).

[7] ـ صادقت الجزائر على اتفاقية منظمة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بموجب المرسوم الرئاسي رقم 04-108 المؤرخ في 19 افريل 2004، واتفاقية دول الاتحاد الإفريقي بموجب المرسوم الرئاسي 06-137 المؤرخ في 10 أفريل 2006، وعلى اتفاقية الدول العربية لمكافحة الفساد بموجب المرسوم الرئاسي رقم 14-249 المؤرخ في 08 سبتمبر 2014.

[8]- الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 14 لسنة 2006.

[9]-الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 50 لسنة 2010.

[10]ـ المصدر : بيان اجتماع مجلس الوزراء الجزائري المنعقد بتاريخ 24 ماي 2010.

آخر تعديل: الاثنين، 2 ديسمبر 2024، 12:18 PM